أما آن لهذا الليل أن ينجلي

pattern
details
22-03-10

أما آن لهذا الليل أن ينجلي

بقلم الكاتب حسن عبادي/حيفا

بدايةً دعوني أعترف بأنّي لم أسمع ببطل كتابنا قبل أن اقترحه الصديق رشاد أبو شاور أو صلاح أبو لاوي لنتناوله ضمن مبادرة “أسرى يكتبون”، وفي زيارتي الأخيرة لسجن ريمون الصحراوي سألني صديق عمّا يتناوله كتاب “قبّة السماء” فأخبرته أنّها حكاية الأسير – إبراهيم سلامة (أبو عرب) – فسألني: ومن يكون؟ صُعِقت من سؤاله، وهو الأسير الكاتب المثقّف الذي يتابع أمور الحركة الأسيرة منذ سنين عديدة، فكيف له أن يجهل أبو عرب وسيرته؟ فجاءني ما كتبه الأسير العزيز حسام شاهين في كتابه “رسائل إلى قمر”: “أحرجتني كثيرًا عندما سألتني سؤالًا عجزت عن الإجابة عليه بوضوح وشجاعة. أخبرتني أنها ذات مرّة اجتمعت مع أحد وفود شبيبة فتح التي زارت النرويج، وأثناء حديثها إليهم سألتهم عنّي، وصُدمَت لدى اكتشافها بعدم معرفتهم مَن أكون، فقالت لهم بغضب: كيف لا تعرفون واحدا من أهم الأشخاص الذين ساهموا في بناء وتأسيس العلاقة بين شبيبتكم والشبيبة الأوروبية على وجه العموم؟ وحاليا يقبع في سجون الاحتلال الإسرائيلي لأنّه تحمّل مسؤوليته الوطنيّة وهو على رأس عمله، ومن الغريب أن يؤدي اعتقاله إلى نسيانه بدلا من حماية ذكراه وأنتم حركة تحرّر. يجب عليكم أن تدرسوا تاريخكم جيدا قبل المشاركة في هذه النشاطات”. جاءني ما قاله الغزالي: “لا تتألّم إذ أنكر أحدهم فضلك عليه، فأضواء الشوارع تُنسى في النهار!”. هذا هو حال شرقنا.

والله صعبة يا أبو عرب.

يتناول كتاب “قبة السماء” (الصادر عن مؤسّسة سوريانا للإنتاج الإعلامي–دمشق) سيرة المناضل الفلسطيني إبراهيم سلامة، كتبتها رفيقة دربه الأديبة زهرة عبد الجليل الكوسى ووثّقت معاناته في المعتقلات الصهيونيّة إثر مشاركته في عمليّات فدائيّة مقاوِمة للاحتلال الإسرائيلي، وكتبت في البدء: “وإذا كانت “الشهادة” هي الترجمة الإبداعيّة الأبرز لحب الوطن فالاعتقال يقترب كثيرًا منها أو يتلازم معها، ولإن الفعل أقوى الدلائل لتجسيد الفكرة”.

لن أتناول التجنيس الأدبي للكتاب؛ هل هو رواية أم سرد نصّي مفتوح؟ هل هو سيرنصيّة أم سيروائيّة أم سيرة غيريّة؟ هل هو تقرير صحافيّ/ روائيّ أم كتاب وصفيّ للحركة الأسيرة عبر عيون أبو عرب وريشة زهرة؟ ولكنّه، على كلّ الأحوال، رصد بانوراميّ يصوّر ويُمثّل حالة الكثير من أسرانا التي همّشها “التاريخ” محاولًا تغييبها لتبقى في طيّ النسيان.

يُعنى أدب السجون الكلاسيكي بتصوير الحياة خلف القضبان وخارجها، كما يناقش الظلم الذي يتعرض له السجناء، والأسباب التي أودت بهم إلى السجن، حيث يقوم السجناء أنفسهم بتدوين يومياتهم وتوثيق كل ما مرّوا به من أحداث داخل السجن، فهو إذا صح التعبير “رواية السيرة الذاتية”.

كتب أدب السجون أيضًا من رصدوا تجارب سجناء عرفوهم.

“تلك العتمة الباهرة” كتبها طاهر بن جلون، تروي مأساة السجين عزيز بنبين الذي قضى عامين في السجون المغربية، ثم نُقل إلى جحيم تزممارت ليقضي فيه ١٨ عاما آخر. اعتمدت الرواية على تصريحات عزيز في تصويرها للأحداث والوقائع، ولم تكن عنها فقط، بل كانت تدور أيضًا حول ثلاثٍ وعشرينَ سجينًا كانوا معه في المعتقل، وسرد تسلسل الأحداث من لحظة الدخول إلى السجن وحتى لحظة الخروج منه.

وها هي الكاتبة زهرة تواكب محطّات أبو عرب منذ التهجير من قريته “أم الزينات” الكرمليّة إبان النكبة وما تبعه، الحياة في المنافي والشتات، فجاء تحت عنوان “القهر”: “يدخل الفلسطيني غربته، يغطي مساحة حلمه خيامًا، تتبعثر في البلدان، ويشكل امتحانًا لنفسه ويرفض الآخرون هذا الامتحان، وتتداخل في أعماقه عاداته مع عادات الشعوب الأخرى، هو الذي تحوّل من مجسد لانتماء على حيّز إلى لاجئ في أوطان عدّة، يجرفه الإقطاع عاملًا وأجيرًا بعد أن كان مالكًا لأرض هو سيّدها… ورحلة القهر تمتد، لم يخطر في باله يوم حمل همّه ورحل أنّها ستطول إلى هذا الحد.” (ص. ٢٣)، إلى العمل الفدائي وعبور النهر، الاعتقال وما مرّ به في سجون الاحتلال وما مورِس ضدّه ورفاقه ومعاركهم اليوميّة وإضراباتهم لانتزاع حقوقهم الأساسيّة، جبروت السجّان الغاشم وقسوته وأساليب التعذيب النفسيّة والجسديّة، حتى التحرّر من براثين العدو وما تبعه من خيبة أمل وتبدّد الوهم الأوسلويّ.

تلاحق إبراهيم النكبة أينما حل؛ يتذكّر أنّ له أرضًا وكان كلّ محصولها لهم، ليجد نفسه دون أرض ولا مال، رغيف الخبز يصبح حلمًا لطفل في حضن أمّه ليغفو جائعًا ليعيش مأساته التي بدأت لحظة نصب أعمدة الخيمة لينام في العراء، وتجعله يتساءل بحرقة “هل زرعنا وحصدنا أو زُرِعنا وحصدونا؟”.

كانت زهرة صادقة في توثيقها، وبعض “أبطالها” أعرفهم حقّ المعرفة، أصدقاء لي، أمثال علي رافع، رشاد أبو شاور، وأسعد عبد الرحمن وغيرهم.

ما أشبه اليوم بالأمس؛ تناولت قضيّة العمالة والتعاون مع العدو واغتيال العميل “صلاح الزعبي”، والاختراق والإسقاط الأمني داخل السجن وخارجه،

الأسيرة “بدرية النجدي” تنجب طفلها داخل المعتقل،

الإهمال الطبّي داخل السجون؛ المعتقل يعاني أمراض العيون، القلب، الأعصاب، وغيرها،

الإضرابات عن الطعام لتحقيق مكاسب للحركة الأسيرة وتنظيمها داخل السجون،

معاناة الأهل ودرب الآلام وعذابات الزيارات،

الإغراءات “الأمنيّة” المسكوت عنها مثل التسهيل الجنسي عن طريق إحضار مومِس أو تسهيل “اللواط” وغيرها. 

وتناولها وسائل التعذيب الساديّة (ومنها: تسجيل أصوات أثناء حفلة التعذيب ويتم توزيعها وإعادتها خلف الزنازين، “الشبح”، التعذيب الجسدي والمس بالأعضاء التناسلية، إحضار شقيقة المعتقل أو أمه وتعريتها أمام شقيقها أو ابنها للضغط عليه أو التهديد باغتصابها أمام أعينه، محاولة قتل الأسير نفسيًا وروحيًا منذ اعتقاله حتّى تحرّره، العزل الانفرادي وغيرها.

أسرانا يستحقّون الحياة رغم محاولة السجّان المستميتة لسحقها، و”يمامة” أبو عرب (ص. ٦٨) أخذتني لصورة وصلتني من خلف القضبان لصديق يربّي عصفورًا ويحرص عليه وأخبرني أنّ السجّان سيحاكمه إذا اكتشفه، وكذلك إلى “آهات من سجن الرملة”؛ لتلك المجموعة “قصصيّة” التي خطّها الراحل زهير لبادة وقصّة “الوردة الحمراء”: يصوّر تهريب شتلة نبات زينة منزليّة إلى داخل السجن وزراعتها في وعاء صغير حتى تمّ مصادرتها وإعدامها. في السجن يشتاق لأشيائه الصغيرة، وبعضهم يشتاق إلى الإسفلت الذي لم يدسه منذ عشرين عامًا! ومنهم إلى زهر اللوز وآخر للخُضرة فيزرع قطعة جزرة في كأس ماء ليتأمل براعمها الخضراء.

نجحت الكاتبة بتصوير وسائل التواصل بين الأسرى داخل الزنازين حين وصفت بريدهم المبتكر بواسطة الخيط الطويل الذي يحمل “بصّة نار” (ص. ٩٣)، وحين قرأتها جاءني ما أخبرني به صديق أسير عن طريقة إيصال رسالة/ مشاركة زميل له في ندوة عقدناها ضمن مبادرة “أسرى يكتبون”؛ كتب مداخلته وأنزلها عبر خيط طويل من الطابق العلوي إلى السفلي لتخترق القضبان.

وقعت الكاتبة في مطبّ التنظير الشعاراتي الفلسفيّ، أحيانًا، بدت للوهلة الأولى مُغَوغلة، وكانت بغنى عنه، (ص. ٣٥)، (ص. ١١٢)، وكذلك الحال شهادة “إسماعيل دبج” (ص. ١٣٠).

وُفّقت الكاتبة بتوظيف الأمثال الشعبيّة: “لماذا لا تبوس اليد وتدعي عليها بالكسر”، “ألف عين تبكي ولا عيني”، “الحجر اللي ما بعجبك بفجّك”، “مثل خروف العيد”، “راح تمشي عالعجين وما تلخبطه”.

لغة الكاتبة انسيابيّة شاعريّة بعيدة عن المحسّنات اللفظيّة، وعلى سبيل المثال (ص. 1٢٧): “ومثل تفتّح حلمتين ليافعة كان تفتح العيون والعقول على المعرفة، نلوب في الليل.. نقرأ من ذاكرة متعلم، ونشعل عيوننا قناديل تحدق في الظلام تسابق سمعنا لالتقاط محاضرة.. وتسقط فراخ الدوري من أعشاشها عن النخلة التي لم تجاور أحدًا.. تتحوّل الفراخ بين أيديهم إلى أطفال يربّونها.. تكبر.. تخرج من الزنزانة.. تغيب في النهار وتعود في المساء لتنام في الزنزانة”. وكذلك الأمر: “أحب الحياة، وتجري أنهار فرحي تصب في قلبها.. يتسامى النبع يحمل أبخرة العشق، يمر على الحقول، ينقشع الضباب.. أتوارى خلف نسمة.. ربّما كانت الحياة أجمل ممّا رسمت..” (ص. ١٢٩).

راق لي وصف أبو عرب لسلاح الابتسامة حين قال: “وأنا ما زلت معلقًا بين روحي وابتسامتي، حتى الابتسامة تكون سلاحًا وغيظًا” (ص. ٥٤) وجاءني ما كتبته في حينه بعد مغادرتي سجن ريمون الصحراوي: “في طريق العودة تصفّحت الأخبار حول ما يجري في القدس، فوجئتُ بصور المعتقلات والمعتقلين، محاطين بجنود الاحتلال، كلّ وابتسامته، جاءتني ضحكة كميل وابتسامات كلّ من التقيته من الأسرى، ابتسامة قاتلة للمحتلّ وتبثّ حريّة قادمة لا محالة. بدأ الشعب بانتفاضة الابتسامة حتى النصر!”.

ويبقى السؤال الوجودي عالقًا في ذهن المناضل: أيّهما أصعب: الشهادة أو الأسر؟ هل فعلًا الأسر عذاب أكبر؟

وأخيرًا؛ نعم؛ رحل أبو عرب مع الراحلين. لكن لم يغب مع الغائبين.. ترك تاريخه.. ترك زهده في الحياة.. ترك قنديله مضاء على درب فلسطين.

كم أنت محظوظًا يا أبو عرب، لم يحالف الحظ الكثير من أسرانا حيث لم يحظوا بنشر سيرتهم، وحبّذا، لو قامت مؤسساتنا بنشر ذاك التراث الغني، كما فعلت زهرة في هذا الكتاب، ليكون عبرة لمن اعتبر، وخاصة أن حكاية غالبيّة أسرانا مُهمّشَة ومُغيّبَة، فلكلّ أسير حكاية، وهناك ضرورة ملحّة لنشرها وأرشفتها لبناء السيرة التاريخية الصحيحة لتلك التجربة لكونِها وثيقةً تأريخيّة متكاملة.