في منتصف أكتوبر، نقلت معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية قصة مفادها أن دولة الاحتلال تواجه نقصاً شديداً في الصواريخ الاعتراضية.
وسائل إعلام عربية نقلت الأمر عن وسائل إعلام إسرائيلية، باعتبارها المصدر. في الحقيقة كان المصدر صحيفة "فيننشال تايمز" البريطانية، وبالمناسبة اعتمدت الصحيفة على مصادر معلنة وليست مجهولة.
وسائل الإعلام الإسرائيلية نقلت القصة كما هي، باستثناء القناة "14" المقربة من نتنياهو، التي أوردت تصريحا لمسؤول إسرائيلي قال فيه: "غير صحيح. لا أعرف من وراء التقرير، لكني أعرف أنه غير مسؤول في أحسن الأحوال ويسعى إلى إضعاف دولة إسرائيل".
تصريح يذكّر بما يردده مسؤولو دول العالم الثالث عندما تنشر الصحافة في بلدانهم معلومات لا تعجبهم، فيسارعون لاتهامها بـ"الأجندات الخارجية".
الدرس المستفاد هنا أن وسائل الإعلام الإسرائيلية ليست المصدر في كثير من الأحداث، فهي تنقل عن آخرين، ولو دققنا في متن الأخبار (وهذا ما لا يفعله المحررون صراحة) سنجد أنها مجرد ناقلة للخبر وليست المصدر الأصيل.
ومن المثير للسخرية في هذا السياق، واقعة حدثت قبل سنوات، إذ نشرت وسيلة إعلامية فلسطينية خبراً، فترجمته وسائل إعلام إسرائيلية، لتقوم وسائل فلسطينية أخرى بترجمته وتقديمه للجمهور على أن مصدره إسرائيلي. القصة هنا مرتبطة بالكسل وظروف عمل الصحفيين وآليات جمع الأخبار والتدقيق فيها ونشرها.
لكن التالي هو الأخطر.
تنقل مراسل القناة "12" في التلفزيون الإسرائيلي داني كوشمارو مع جنود الاحتلال في جنوب لبنان ونسف بنفسه منزلا بالمتفجرات، موثقاً ذلك بالصوت والصورة. جريمة مكتملة الأركان مرت هكذا دون أن تفجر غضباً إعلامياً عالمياً.
هذا الصحفي شارك في اقتحام غزة، وانتزع لعبة بلاستيكية من مدرسة زاعماً أنها بندقية لتدريب الأطفال، في مسعى للتحريض على قصف المدارس التي صارت مراكز إيواء.
كل هذا يحدث في الوقت الذي يحرض فيه جيش الاحتلال على 6 صحفيين يعملون في شمال غزة، حيث تشتد الإبادة الجماعية التي ينفذها الجيش هناك. إن ما يفعله هؤلاء هو نقل الحقيقة وليس نسف المنازل كما فعل كوشمارو. هذا التحريض ليس بريئاً إنما قد يمهد لاغتيالهم لا سمح الله.
لا توجد أصوات عاقلة في الإعلام الإسرائيلي ولا حتى أصوات إنسانية، باستثناء صحيفة "هآرتس" أحياناً، التي كتبت تقريراً انتقدت فيه شبكات التلفزة الإسرائيلية وقالت إنها تعاني من "إفلاس أخلاقي" مع اشتداد العدوان على غزة ولبنان.
تضيف الصحيفة أن الضحايا الفلسطينيين والدمار في غزة لا يظهرون والمعلقين العرب مستبعدون تماماً من الشاشة. وبوسعنا أن نقول أيضاً أن صحفيين إسرائيليين صاروا جزءاً من عمليات التحريض على القتل والإجرام بحق الشعبين الفلسطيني واللبناني، بعبارة أخرى، لم يعودوا صحفيين بل صاروا أبواق دعاية.
هذا يحدث في إسرائيل التي تقدم نفسها على أنها ديمقراطية، لكن هل هي بالفعل كذلك في مجال الصحافة؟
لا يعرف كثيرون أن هناك رقابة عسكرية في إسرائيل، تأسست عام 1948، أي في عام النكبة وقيام دولة الاحتلال على أنقاض القرى والمدن الفلسطينية المهجرة. مهمة هذه الرقابة العسكرية منع نشر أي معلومات "تضر بأمن إسرائيل".
نحن نعيش في القرن الحادي والعشرين ودولة الاحتلال تعتمد الرقيب العسكري، الأسلوب البالي الذي يعود لقرون خلت.
المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) أورد معطيات تظهر حجم التدخل الهائل لهذا الرقيب في حظر الأخبار أو تعديلها، فعلى سبيل المثال، منع نشر 613 مقالاً بشكل كامل عام 2023، وهو ما يمثل زيادة كبيرة مقارنة بالأعوام السابقة.
وأمام هذا التقييد الكبير، برزت شبكات التواصل الاجتماعي كمصدر بديل للإسرائيليين (وللناقلين عنهم بالضرورة)، وتحديداً على تطبيق "تلغرام"، فقد كانت هناك قنوات إخبارية غير رسمية موجودة منذ سنوات، لكنها اكتسبت شعبية كبيرة خلال العدوانين على غزة ولبنان، مثل قناة "أخبار من الميدان".
وأصبحت هذه المنصات مصدراً رئيساً للمعلومات لمئات الآلاف من الإسرائيليين، في ظل الفراغ المعلوماتي ونقاط ضعف الإعلام التقليدي، طبقا لـ"مدار".
إذن عندما تسمع بكلمات من قبيل "يديعوت آحرونوت" أو "تايمز أوف إسرائيل" أو "إسرائيل هيوم"، فهذا لا يعني المصدر الأول للخبر، وبالتالي ما الذي سيميز هذه الوسائل؟
يقال إن كل شيء في إسرائيل دعاية، فهل من المعقول ألا تستغل دولة الاحتلال الإعلام في دعايتها؟
إن الإعلام هو أحد أبرز أدوات المؤسسة السياسية والعسكرية في إسرائيل، تستعملها لتسريب معلومات بقصد التضليل أو تصفية الحسابات الداخلية أو تشويه سمعة طرف خارجي أو ابتزازه أو جس نبض الشارع.
وعلى سبيل المثال، لأشهر طويلة ظلت المصادر الإسرائيلية تتحدث عن تقدم هنا أو هناك في مفاوضات غزة، فيما العدوان دخل عامه الثاني. هل من سبب وراء ذلك؟ بالتأكيد، وقبيل الضربة الإسرائيلية لإيران نشرت وسائل إعلام إسرائيلية سلسلة من الأخبار المتضاربة، وربما تكون قصة تسريب الوثائق جزءاً من التضليل، وفي وقت سابق من الحرب نقلت سيلا من الأخبار أن المستوى السياسي لم يكن على علم بعمليات اغتيال وقتل، وهذا كلام لا يصدقه عاقل.
إن هذه التسريبات تضرب الخصوم وتثير البلبلة، وفي الوقت نفسه لا تحمل السياسي أي مسؤولية.
لكن هناك أمور تساعد الإعلام الإسرائيلي، منها أن دولة الاحتلال تصنع الأخبار فهي تقرر الهجمات وتنفذها وهذا يجعلها مصدرا للخبر، وهناك هامش حريات واسع في الموضوعات الداخلية، لكنه يصبح صفراً في مجال العدوان على غزة، كما قالت "هآرتس"، وكما يتضح من "توحش" هذه المنصات الإعلامية العبرية.
إلى جانب ذلك، هناك تعدد في المؤسسات الإعلامية ذات التوجهات المختلفة، المحكومة في النهاية بالرقيب العسكري، كما أسلفنا.
وللأسف، ثمة سبب آخر وهو رغبة بعض المصادر في السلطة الفلسطينية والعالم العربي في الحديث مع وسائل الإعلام الإسرائيلية بغية إيصال رسالة معينة، وبصرف النظر عن المعلومات التي تبوح بها، فهذا الأمر يصب في مصلحة تلك الوسائل. الصحفي الفلسطيني أو العربي يتعب كثيرا لانتزاع معلومة مقارنة بالصحفي الإسرائيلي تصله المعلومة في مناسبات كثيرة حتى قبل أن يطلبها.
قصة الإعلام الإسرائيلي كبيرة ولا يمكننا روايتها كلها هنا في هذا المقال السريع، لكن تراكمت مع الزمن ملاحظات ربما تكون مفيدة في توضيح المسألة.