الكاتب:حسن حميد
كنتُ، ومنذ زمن بعيد، ولم أزل، أفرحُ بكلّ هواء إبداعي آتِ من البلاد العزيزة فلسطين، كنتُ، ولم أزل، على عطشي لإبداع أدباء فلسطين وفنانيها، أتقرّى الكتب وما فيها، واللوحات وما تحمله، والموسيقى وما تدور حوله، والغناء وما يجول فيه من تشوّفات، وكذلك سائر الفنون الأخرى وما تحلم به، ذلك لأنني أحبّ ما تبديه الطبيعة عامّةً من جسارة في التكوين والتلوين والإبداع الفطري المشدود إلى البكورية المحتشدة بالدهشة الآبدة! والفلسطينيون أهلي، وهم في مثل ظروفهم الصعبة ، يشبهون الطبيعة، وهم يقولون آخهم، أو وهم يزفرون آهاتهم، أو وهم يواصلون الحياة على الرغم من قسوة ما يرمون به من أذيّات عاطبة!
أقولُ هذا ، وأنا فرحُ بما بين يديّ، من سردٍ جميل كأشجار اللوز المزهرة وأزيد، وسردٍ رائق مثل الغدران وأوفى، سردٍ بصير بالحال الفلسطينية وما أحاط بها، وما خالطها من ثنائيات، ارتطم بعضها ببعضها الآخر إلى حدّ الإدماء والتعب.
هذا السردُ هو اجتماع رواية للأديب أحمد رفيق عوض، عنوانها (الحياة كما ينبغي)، وقد وقفتُ قبلاً على تجربته السّردية، منذ بداياتها كأخبار في الإعلام الثقافي، إلى أن راحت أعمالُهُ تتساقط بين يديّ مثل الهدايا، ولكم فرحتُ بها.
واستباقاً لأيّ شيء أقول: إنّ أحمد رفيق عوض ليس كاتباً روائياً فقط، بل هو صاحب مشروع روائي جليل، كان لابدّ له من أن يبدو لأنّ ثقافته كبيرة، ومترامية، وممتدّة، ففي رواياته تتعانق أرواح ثقافية كثيرة، منها التاريخية، و السوسيولوجية، والسياسية والاقتصادية، وكلّها تروم التظهير والبدو، وهو في هذا المشروع الروائي، لم يتقفَ تجربة روائية فلسطينية سابقة عليه، فقد أدرك من التجارب الأدبية السّابقة ما أدركه، ثم اختطّ دربه وافترعه، فأخذ من الماضي ما مكّنه من التناصّ مع الحاضر، وأخذ من الواقعي ما جاز به نحو الخيال، لهذا تتآخى في رواياته الأرواحُ التاريخية، والاجتماعية، والسياسية فيما بينها داخل أنساق دلالية لحياة عاشها الفلسطينيون قراءةً في كتاب الوطنية!
ولأنّ الحديث حول هذا المشروع الروائي واسع، ويستحق التريث والتأمّل ، فإنني أواقف هنا، رواية أحمد رفيق عوض الأخيرة (الحياة كما تنبغي) الصادرة هذا العام 2022، لأشير إلى أهميتها إشارات خاطفة!
يعود أحمد رفيق عوض في هذه الرواية، إلى الجذر الأساس لهذا التقابل النقيض ما بين رواية الفلسطيني ورواية الإسرائيلي، أيّ إلى ثنائيات الحقيقة والزيف، والحق والباطل، والرواية الأصل والرواية الموهومة، و قوّة الحقّ، وحقّ القوّة؛ هذا من جهة الموضوع، أما من جهة التشكيل والبناء الفني، فإنّ أحمد رفيق عوض يعود إلى البراري ليستلّ منها، صوغاً وتشكيلاً، لمعمار روايته.
أمّا الحدث فهو الحدث نفسه، أيّ المواجهة مع المحتل الإسرائيلي، وبطله هو راشد المحمود ابن بلدة يعبد، الذي يلخّص السيرة الفلسطينية باجتماعها من جهة، وارتطامها بالمحتل الإسرائيلي من جهة أخرى، فهو شاب جامعي، أخذ الشهادة، ولم يجد عملاً بسبب قوانين الاحتلال وفرماناته، لذلك مضى ليعمل سائقاً لسيارة تحمل البضائع إلى محلّات التّجار، فيعيش النهار بكلّ غُصّاته على الحواجز والطرق، فيعرف الأسئلة المرّة ويدرك مآلاتها، ويسمع الشتم وما يقصده، ويعي الإذلال وهوانه، فيحسّ، في كلّ لحظة، بأن آدميته تتناقص وتتبخّر أمام عينيه، وأنه يصغر ويتلاشى، في حضور الكائن الإسرائيلي الذي تغوّل حتى ضاق الفضاء عليه؛ذروة الحدث تتجلّى على أحد الحواجز، حاجز الحمرا بين جنين وأريحا، حين تفور روح راشد المحمود، فيرتطم بجنود الحاجز،حجّاب الحياة وخصومها، فيطلقون النار عليه، ليغتسل بدمه، ثم يؤخذ إلى المشفى، ثم إلى السجن والتحقيق، فيهان ويُضرب، ويُشتم، وتثلم كرامته، وبعد خمس سنوات سجن، يخرج، وفي صدره حلم واحد هو مواجهة الإسرائيلي، والنيل منه من أجل استرداد كرامته، وهذا ما يحدث، فيقتل ضابطاً اسرائيلياً، في كمين معدّ، وسط مُناخ شتوي محتشد بالمطر والرياح، والضباب، وحين لا يستطيع الانسحاب يأوي إلى الأشجار، ويحتمي بها، الأشجار التي قرأ عنها،أنها كانت هي الأسوار للمدن والقرى والحياة في الأساطير القديمة.
ثم، بعد أيام، يغادر إلى مخيّم جنين، بمساعدة والد شهيد، أخفاه في مخزن بيته، ثم أخفاه في عربته التي تحمل رزم القش، وهناك في المخيّم يلتحق برفاقه.
سيرة راشد المحمود، هي سيرة كلّ فلسطيني يبحث عن الحرية والكرامة، وبجوارها سيرة اليهودي الشرقي الذي يشكو من اضطهاد اليهودي الغربي الذي مهما فعل له يظلّ شرقياً، وظيفته ليست الحياة، بل الاستعمال، ومآله الموت والانتحار مثلما فعل الضابط اليهودي الشرقي الذي ما عاد يعرف باباً أو نافذة أو طريقاً لحياة يعيشها!
رواية ( الحياة كما ينبغي)هي رواية براري، في تشكيلها الفني، فالأشجار تباريها وتماشيها بأنفاسها، لتقول لنا: أنا كتاب الحياة/ كتاب الأرض، فهلمّوا إليّ. والرواية هي أيضاً تظهير للصورة الأخيرة التي يدفعها الإسرائيلي المتغطرس بكلّ قوّته، لتبدو، كي يبدو من خلالها مصيره النهائي المختوم بالموت! فالرواية، من أولها إلى آخرها، صرخةٌ مجلجلةٌ، تقول: لا حياة للفلسطيني من دون حرية وكرامة، وأن حياةً يحكمها الظلموت ليست بحياة.
بلى، رواية/الحياة كما ينبغي/ إضافة جديدة وغنية، يرسّخ بها، أحمد رفيق عوض، مشروعه الروائي، معنىً ومبنىً، حين جعل الكرامة قرىً يعمّرها الفلسطيني بذوب روحه، وحين جعل من البراري شكلاً روائياً لها، فيه من الظاهر ما يُدهش، وفيه من المستبطن ما يمدّ عزيمة الفلسطيني ويُغنيها بالأسرار الضّافيات الكوامن.