نظرية الجدر في العقلية اليهودية وموروثها التاريخي والديني ضاربة بعمق ممتد منذ آلاف السنين وصولاً لزماننا الحالي الذي يشتد فيه الصراع فوق أرض فلسطين التاريخية. اعتاد اليهود تاريخياً العيش منعزلين وبطقوس منغلقة، وشيدوا الجدر حول مناطقهم لتوفير الأمن وتعزيز خصوصية مجتمعاتهم، وحماية ديمغرافيا مناطق سيطروا عليها. تقيم "إسرائيل" منذ عشرين عامًا جدار الفصل العنصري الذي قضم معظم أراضي الضفة المحتلة وحجب عن الفلسطينيين التواصل الجغرافي، وعلى حدود غزة أنهت عام ٢٠٢١ جداراً آخر يطوق غزة المحاصرة من الشرق. وفّر جدار الفصل العنصري الأمن بالتدريج للاحتلال بعد عدوان "السور الواقي" ٢٠٠٢، لكن اشتداد موجة المقاومة الحالية بدخول الفلسطينيين في أراضي الداخل المحتل عام ٤٨ على الخط، وبقاء احتمال انفجار جبهة غزة يتجاوز الآن نظرية الجدر ويتخطى تحصيناتها. انعزال وأمن ليس عبثاً أن تطلق "إسرائيل" على عدوانها بغزة مايو ٢٠٢١ اسم "شُومير هَحُومُوت" أي "حامي الأسوار"، فالعيش خلف الأسوار جزء لا يتجزأ من ثقافة اليهود الانعزالية. يتكرر مشهد أكثر ضراوة يومياً في جدار الفصل بالضفة المحتلة؛ فهناك معاناة الفلسطيني في الحركة والعمل يومية ومعاناته عززت خيار المقاومة والحرية. وأعلن الاحتلال مؤخراً أنه بات يعاني من فتحات جدار الفصل العنصري بالضفة المحتلة، زاعمًا أن هذا يشكل تهديداً لأمنه، وسط تصاعد عمليات المقاومة في الداخل المحتل. ويؤكد الخبير في الشؤون الإسرائيلية ناجي البطة، أن ثقافة اليهود منذ الخليقة تعتمد الانغلاق والانكفاء، مبيناً أن اليهود عاشوا زماناً طويلاً في أوروبا بمناطق مغلقة سميت بـ"الجيتو". ويضيف لـ"المركز الفلسطيني للإعلام": "كانت الجدر تعزل مناطقهم من زمن، وكانت زمن يهود خيبر واليهود يفضلون الحفاظ على مجتمعاتهم وديانتهم بشكل مغلق". وتجددت فكرة بناء جدر لحماية أمن "إسرائيل" وعزلها عن الفلسطينيين عام ١٩٤٨، حين طرح أستاذ جامعة حيفا "أرنون سوفير" خطورة البعد الديمغرافي على مستقبل "إسرائيل" المهدد عام ٢٠٢٠، فالتقط الأمر -حسب الخبير البطة- مستشارو حكومة الاحتلال. على غرار جدار برلين الذي فصل جزأها الشرقي عن الغربي في ألمانيا وانهار عام ١٩٨٦، اتخذت دولة الاحتلال قرار بناء جدار الفصل العنصري عام ٢٠٠٢. وطرح الفكرة رئيس وزراء الاحتلال السابق "رابين"، بعد اشتداد عمليات المقاومة منتصف التسعينيات فكرة للفصل بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وانتقلت لبرنامج خليفته الانتخابي "أيهود باراك" عام ٢٠٠٠، ثم أقرها "شارون" وبدأ تنفيذها في حزيران ٢٠٠٢. ويقول الخبير في الشؤون العسكرية اللواء يوسف شرقاوي: إن جدار الفصل العنصري يضم الآن ثغرات يصعب السيطرة عليها مهما كانت تكنولوجيا الاحتلال. ويتابع لـ"المركز الفلسطيني للإعلام": "عمليات المقاومة الأخيرة أثبتت وجود ثغرات أمنية واضحة لدى الاحتلال، وأنه من الصعب السيطرة المطلقة على الميدان في الضفة وأرض ٤٨". ويربط نماذج الجدران من حول غزة والضفة بنموذج خط "بارليف" الذي يعد نسخة مقاربة في حرب الاحتلال مع مصر عام ١٩٧٣م يعيد تكرارها. ووفق مشاهد التوتر اليومية على فتحات جدار الفصل العنصري بالضفة المحتلة قمعت قوات الاحتلال اليوم العمال الفلسطينيين عند فتحات الجدار في عدة مناطق ومنعتهم من دخول الداخل المحتل للعمل. وأطلق جنود الاحتلال قنابل صوتية وغازا مسيلا للدموع، تجاه العمال فتحات الجدار والثغرات في السياج الأمني عند فتحات الجدار في بلدة فرعون، وخربة جبارة عند طولكرم. كابوس دائم سكنت نظرية الجدر لتوفير الحماية العقليةَ اليهودية من قديم، وتقاطعت معها نماذج احتلال في التاريخ الحديث احتلت دول العالم الثالث، وشيدت الجدر العازلة لحماية القادم من خلف البحار. وعلاوة على كابوس الأمن والحماية تستوطن العقلية الصهيونية فكرة تفوق اليهود على جميع المجتمعات من حولهم في العالم، وتستعين بمقدرات اليهود المالية والسياسية لوضع مسافة كبيرة مع الناس كافة. ويؤكد الخبير "البطة" أن بناء جدار الفصل العنصري بالضفة لم يحقق الأمن المطلق للاحتلال، بل أغلق عليها منافذ، ولم ينجح في منع مقاومة فلسطينيي ٤٨ سكان الأرض الأصليين. ويبين أن الجدار حقق رغبة الانغلاق، ولم يحقق هدف توفير الأمن الكامل، مشيراً إلى وجود ثغرات بالجدار تربط بين مناطق ٤٨ والضفة وبعضها ربط بين مناطق تماس وأخرى مكتظة على الجانبين من أرض الضفة المحتلة. تلوّى جدار الفصل بالضفة كثعبان لم يتبع خط الهدنة عام ١٩٤٩، بل تحايل ليضم مناطق واسعة من مناطق "سي" التي تشكل ٦٠٪ من الضفة، لتكون خاضعة للسيطرة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية. ويشير الخبير "شرقاوي" إلى أن الاحتلال في دول مثل الجزائر ولبنان وأمريكا في القرن الماضي استخدم الجدر لجسر الفروق الديمغرافية بين الاحتلال والشعب المحتل وتحقيق تعادل سكاني. وظهرت في حروب الجيل الرابع وسائل للتغلب على جدران أي احتلال بتوجيه كتلة بشرية كبيرة تقتحم الجدار العازل والموانع المحصنة، وهي أسلوب قد يجرى اتباعه مستقبلاً، حسب ترجيح الخبير "شرقاوي". وتعاني غزة المحاصرة من جدار جديد أقامه الاحتلال قبل شهور على حدودها الشرقية، وهو جدار إسمنتي طوله ٦٥ كيلومتراً، وارتفاعه ٦ أمتار، وله حاجز تحت الأرض بأجهزة استشعار. وتبدو "إسرائيل" ماضية في تشييد الجدر في غزة والضفة؛ فالأول انتهى عام ٢٠٢١، والثاني بدأ عام ٢٠٠٢، ما يدلل أن هاجس الجدران والأمن ضارب في عمق عقيدة الاحتلال الأمنية.