في خمسينيات القرن الماضي بدأ دافيد بن غوريون، رئيس أوّل حكومة لدولة الاحتلال ووزير دفاعها، بالعمل على بلورة العقيدة الأمنيّة الإسرائيلية وفقاً للظروف الجيوسياسية المتعلقة بتلك المرحلة. ارتكزت تلك العقيدة على عدد من الأمور أهمها: تعزيز قوّة الردع، استخدام الحرب الوقائيّة وحسم المعركة بسرعة كبيرة. وهي ركائز وضعت نصب عينيها استحالة قيام إسرائيل بالدفاع عن حدودها نظراً لافتقارها إلى العمق الإستراتيجي مما يعني نقل المعركة إلى أرض "العدو" واحتلال أماكن هناك لغرض تحقيق مكاسب سياسية لاحقاً(١).
جاءت حرب ١٩٦٧ لتكشف الحاجة إلى معدل تدمير عالي واستهلاك أعلى من المعدات والذخائر الحربيّة، وهو الجانب الذي غطته الولايات المتحدة الأميركية وقتها، ولكنه دفع دولة الاحتلال لأن تزيد من درجة اعتمادها على الذات من خلال تنمية وتطوير الصناعات العسكرية الإسرائيلية بهدف تحقيق مستوى متقدم من الاكتفاء الذاتي كما عملت على تأمين احتياطات من نظم الأسلحة والمعدات المختلفة(٢).
وبالنسبة لجيش يسمى نفسه بجيش الدفاع، كان واضحاً افتقار عقيدته إلى عناصر "الدفاع والتكيّف". إذ بدأ الحديث فعلياً عن تطوير نظام رد دفاعي لحماية السكان المدنيين والبنى التحتية القومية بعد عام ٢٠٠٦ متمثلاً بنظام القبة الحديدية وغيرها من الأنظمة الصاروخية، إلى جانب التكيّف مع معطيات الحرب الجديدة وهي انعدام أي تهديد عسكري من جيش نظامي على إسرائيل فيما تحوّل التهديد إلى جماعات "لا دولتية"(٣) مثل حزب الله وحماس، وهو التغيير الذي بدأ يطفو على السطح بعد حرب ١٩٧٣. كما يتطلب هذا التكيّف استنباط نظام دفاع ملائم عن أنظمة الحواسيب القومية أو ما يمكن تسميته بـ"الحرب السيبرانيّة" وتشابكها مع ركيزة الحرب الوقائيّة في مجال التنبؤ بوقوع هجوم.
اهتم المخرجون الإسرائيليون بتقديم أفلام وثائقيّة تحاول الإمساك بكل تلك المتغيرات، منها ما يطرأ على المستوى السياسي وأخرى على المستوى العسكري، ولكنها تنصبُّ جميعها ضمن الجهود العامة للدولة الصهيونية من أجل إحكام سيطرتها على الأرض وتعزيز عقيدتها الأمنية المبنيّة على تجاربها في حروبها المتعددة.
فيلم المختبر
صدر عام ٢٠١٣ فيلم المختبر لمخرجه الإسرائيلي يوتام فلدمان حول الصناعات العسكريّة الإسرائيلية، وهو فيلم مثير للجدل كونه يظهر دولة الاحتلال ككيان قائم على الاستفادة الاقتصاديّة من تصنيع وتجارة الأسلحة بعد تجريبها على الفلسطينيين. لكنه يذهب في عدد من مشاهده إلى غير ذلك خصوصاً فيما يتعلّق بالطريقة التي تفكّر فيها دولة الاحتلال تجاه جسد الفلسطيني.
يهتم العسكري الإسرائيلي بأن يكون جسد الفلسطيني مكشوفاً تماما لديه، والأهم أن يكون جسد الإسرائيلي محمياً وغامضاً. في فيلم "المطلوب" (Wanted) تظهر الممثلة الأميركية أنجيلينا جولي مع سلاح غريب يمكن التحكم فيه بيد واحدة، وفي أحد المحال التجارية تستخدمه بنجاعة لإصابة أهدافها من وراء رفوف المواد التموينية، فيصبح بإمكانها أن تطلق النار من مخبأها دون أن يظهر من جسدها مليمتر واحد، يعود الفضل بوجود هذا السلاح إلى أحد جنرالات الجيش الإسرائيلي.
في كريات أونو، إحدى المناطق التابعة لمدينة تل أبيب(٤)، وتحديداً فوق أحد المتاجر الكبرى وإلى جوار عيادة للأسنان تقع شركة كورنرشوت لتصنيع الأسلحة والتي يملكها عاموس غولان العقيد المتقاعد من الجيش الإسرائيلي(٥)، كان مقاتلاً في مختلف وحدات مكافحة "الإرهاب" والنخبة، وهو مخترع سلاح كورنرشوت الذي تحمل شركته اسمه(٦). السلاح مزوّد بكاميرا رقميّة عالية الدقّة مع شاشة تسمح بالرؤية، كما يستطيع إصابة الأهداف من مسافة ٢٠٠ متر، صنعه غولان بالتعاون مع مستثمرين أميركيين ولاحقاً قامت دول أخرى باستنساخه مثل إيران وباكستان.
كان الدافع الرئيسي للتفكير بسلاح بهذه التقنية هو التجربة الميدانية التي خبرها غولان في شوارع غزّة ولبنان. فالمواجهات مع رجال المقاومة أعطت انطباعاً له بأن مجرد رؤيتهم لجنود الاحتلال فهذا يعني إصابتهم في مقتل، ولهذا يعمل دوماً الجيش الإسرائيلي على تطوير نظم دفاع وهجوم مختلفة تعتمد بالأساس على كشف جسد المقاوم وتخبئة جسد المحتل.
مع كتلة هائلة من العضلات ورأس أصلع لامع يجعله يبدو كأحد نجوم السينما، أعلن شيمون نيفاه، العميد في الجيش الإسرائيلي والحاصل على مرتبة الدكتوراه في التاريخ، أعلن عن دراسته المتخمة بنظريات علم النفس والفلسفة والأدب والتاريخ العسكري من أجل تحسين الأداء العسكري للجيش الإسرائيلي في مواجهة مجموعات غير نظاميّة في حرب شوارع(٧).
نيفاه الذي يصفه أحد طلابه بأنه "ميشيل فوكو لكن مع مُنشّطات" يعتبر نفسه العقل الفلسفي والذي يجمع ما بين الحرفي البارع والمهندس الذكي، أحدهم عليه التفكير واستنباط الحلول والآخر هو الأقدر على تطبيقها على أرض الواقع. مغرم على وجه الخصوص بالفيلسوفان جيل ديلوز وفليكس غواتاري، وكتبهم "معاداة أوديب" و"ألف هضبة"، وسعى إلى "استدراج نظريتهم لخلق شكل لامركزي وغير منتظم من النشاط العسكري" من أجل محاكاة أساليب حرب العصابات.
هكذا حوّل نيفاه وطلابه نظرية ديلوز غواتاري التي "صيغت بالأساس كفلسفة للتحرّر والمقاومة، تأثرت بالحراك الطلابي الفرنسي" عام ١٩٩٨ -إلى جانب الفكر النسوي-، حولها إلى الأساس النظري لكل العمليات العسكرية الإجرامية التي يؤديها جيش الاحتلال من اغتيالات وهدم للمنازل وقتال داخل أزقّة المخيمات. فتحت عمليّة السور الواقي، عام ٢٠٠٢، والتي قام بها الجيش الإسرائيلي في أراضي الضفة الغربية المحتلّة باب التحليل كونها شكّلت ذروة تنفيذ هذه الأساليب خصوصاً في معارك نابلس وجنين.
يقول إيال وايزمان، مؤلف كتاب أرض جوفاء "فسرنا الزقاق كمكان ممنوع من المشي، والباب كمكان ممنوع من المرور، والنافذة كمكان ممنوع النظر من خلالها، لأن سلاح ينتظرنا في الزقاق، وفخاخ تنتظرنا وراء الأبواب، وذلك لأن العدو يفسر الفضاء بطريقة تقليدية وكلاسيكية، وأنا لا أريد الانصياع لهذا التفسير فأقع فريسة لشباكه، وليس هذا وحسب بل إنني أريد أن أصنع مفاجأة. هذا هو جوهر الحرب. أحتاج للفوز. أحتاج إلى الخروج من مكان غير متوقع… ولهذا السبب اخترنا منهجية التحرك عبر الجدران… مثل دودة تتلوّى بطريقها نحو الأمام وتظهر عند نقاط معيّنة ثم تختفي".
يستعرض نيفاه في الفيلم موقعاً عسكرياً للتدريب صمم خصيصاً لأن يكون مشابهاً لبلدة عربية، حتّى مع الكتابة العربيّة على الجدران. "ما إن تدخل الوحدة النظامية إلى بلدة كهذه فإنها تتفتت بسهولة"، يقول نيفاه، وعليه كان يجب تطوير طريقة ليستطيع فيها الجيش النظامي أن يقاتل في معارك حرب شوارع لقوات غير نظامية. وهو ما فعله في معارك البلدة القديمة في نابلس حسب ادعائه.
فبعد أن كانت البلدة القديمة نقطة قوة للمقاتلين فيها والذين يعرفون أزقتها جيداً ويحفظونها عن ظهر قلب، أراد تحويلها إلى نقطة ضعف من خلال أمرين، الأول هو عدم الدخول من مكان واحد بل من عدة أماكن متفرقة، والثاني هو التحرك بأسلوب يضمن عدم كشف تشكيلات مجموعاته القتالية ويضمن عدم تفتيتها كذلك. "تركنا الشوارع خالية تماماً وتحرّكنا عبر الجدران". وبذلك يتحقق انكشاف الجسد الفلسطيني أمام استتار الجندي الإسرائيلي بشكل كامل.
والجدير بالذكر أنّ الردع الذي يعتمد الجيش الإسرائيلي على تعزيزه دوماً ينقسم إلى نوعان(٨)، الأول هو حرمان الخصم من تحقيق أيّ مكاسب عسكريّة، والثاني هو إلحاق الأضرار الجسيمة واحتلال أراض جديدة، أي تنفيذ سياسة العقاب، وهو ما يؤكد عليه أميرام ليفن، الجنرال المتقاعد والقائد السابق لمنطقة شمال فلسطين المحتلة بين عامي ١٩٩٤ و١٩٩٨، فيقول بأن السبيل الوحيد للحفاظ على بلد مستقر هو التركيز على سياسة العقاب كعنصر أساسي "الكميّة على حساب الكفاءة" كتلك التي تم تطبيقها في الضاحية الجنوبية لبيروت، أي الضرب بقوّة في كافة الأوقات، قبل الحدث وأثناءه وبعده، بهدف كي الوعي. بشرط ألا يرهق العسكريون أنفسهم بأسئلة مثل "هل كان فلان يستحق الموت أم لا؟" لأن جميع الفلسطينيين، على حد تعبير أميرام ليفن، ولدوا لكي يموتوا.
استطاعت إسرائيل، مع بدء مرحلة الحرب على الإرهاب، أن تكون محط أنظار الجيوش من كافة دول العالم والتي قامت بإرسال بعثات للحصول على تدريب في إسرائيل للتدرب على كيفية خوض حرب الشوارع. يقول بنيامين بن اليعازر، الذي شغل منصب وزير الصناعة والتجارة في دولة الاحتلال "السبب في كون الأسلحة والخبرة الإسرائيلية محط طلب عالمي هو أنها تتمتع بتكنولوجيا عالية والأهم من ذلك فإن الناس يحبون شراء أشياء مجرّبة". وهو بذلك يقصد بأنها تم تجريبها على الفلسطينيين تحديداً.
فيلم حرّاس البوابة
تتجلى عقيدة الحرب الوقائيّة إذا ما اتجهنا إلى رجال الشاباك الإسرائيلي، وهو جهاز الأمن الداخلي المختص في الساحة الفلسطينية، وهو أحد الأذرع الاستخباراتية الصهيونية التي تشمل أيضاً جهاز الموساد للاستخبارات الخارجية وأمان للاستخبارات العسكرية، والتي تساعد في تقديم التقارير والمعلومات للجيش وسلاح الجو والبحر الإسرائيلي.
في فيلم حرّاس البوابة (The Gatekeepers) يلتقي المخرج الإسرائيلي درور موريه، بستّة منهم لأوّل مرّة يتحدّثون أمام الكاميرا عن عمليّات عسكريّة ضدّ الفلسطينيين إما قاموا بها بأنفسهم أو أشرفوا عليها، شملت اغتيالات لكبار قادة المقاومة الفلسطينية ومن ضمنهم المهندس يحيى عيّاش.
وجد كرمي غيلون، رئيس جهاز الشاباك بين عامي ١٩٩٤ و١٩٩٦، نفسه أمام موقف لا يحسد عليه، فبعد أن اعتاد على الأسلوب القتالي لمنظّمة فتح على مدار سنوات، كان على موعد مع حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي وأسلوبهم المختلف تماماً عن المتبع لدى فتح، وأهم ما ميّز عمل حماس تلك الفترة هو العمليات الاستشهاديّة. كانت العمليات التفجيرية تقع في أماكن لا يمكن تصورها وأوقات غير متوقعة على الإطلاق، وكان عليه إيقافها مهما كان الثمن.
أطلق غيلون اسم "القنبلة الموقوتة" على تلك المرحلة، وبذلك يشير إلى وجود احتمال دائم بأن شخص ما سيقوم بتفجير نفسه في مكان ما في وقت ما. وأن تفاصيل هذه العملية لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال استجواب أحد الأفراد. وبينما يتم استجوابه فإن الوقت يمر سريعًا باتجاه ساعة الصفر.
كان على الشاباك كي يقوم بإيقاف العمليات أن يعرف من الذين عليه أن يراقبهم، وهذه الأمور هي التي تأخذ وقتاً طويلاً بالنسبة إليهم. وفي ذلك الوقت كانت كافة جهود الشاباك تتجه نحو يحيى عيّاش الذي نجح الاحتلال باغتياله عام ١٩٩٥ في غزّة من خلال تفخيخ هاتفه المحمول. وصل الشاباك لعيّاش عن طريق أحد العملاء، والحقيقة أن تجنيد العملاء هو أحد أهم وظائف جهاز الشاباك إذ يشكّلون المصدر الأهم لتحصيل المعلومات التي يمكن استخدامها في حرب وقائيّة.
ختاماً، لم تتغيّر العقيدة الأمنية الإسرائيلية منذ نشأتها إلا بشكل خفيف، كان أبرزها إعادة قولبة الجيش، وتحويله من قوة نخبة تحيط بها أعداد ضخمة من الإحتياط إلى جعل الجيش كله نخبة ويحيط به عدد أكبر من قوات الاحتياط. كما طوّرت إسرائيل من أساليب القتل عن بعد عبر استثمارها في مجال صناعة الأسلحة المناسبة لذلك ومنها الطائرات بدون طيّار. وفي دولة يتحوّل فيها الجنرال المتقاعد إلى تاجر سلاح يقوم بتدريب فرق موت في أميركا الجنوبية(٩)، فإن العقيدة الأمنية ستبقى دوماً تحظى بتغيرات طفيفة ولكنها بكل تأكيد مبنيّة على تجارب إسرائيل الحربيّة، أي أن موت الفلسطيني بالنسبة لإسرائيل هو فرصة لا تعوّض للتجارة و لتحديث منظومتها العسكريّة على حدّ سواء.