بعد جولتها الثانية.. المفاوضات الإيرانية الأميركية تكشف ثبات المقاومة

pattern
details
منذ 0 ساعة

بعد جولتها الثانية.. المفاوضات الإيرانية الأميركية تكشف ثبات المقاومة

استطاعت جبهات المقاومة خلق معضلة إستراتيجية لمعسكر الهيمنة الذي تقوده الولايات المتحدة ويلعب به الكيان الصهيوني دور الوكيل ورأس الحربة للمصالح الاستعمارية، وهي معضلة مفادها عدم القدرة على تصفية المقاومة وعدم القدرة على احتمال وجودها والاعتراف بحقوقها لإدراك استعماري بوجودية الصراع وبأن الهدف الإستراتيجي للمقاومة هو التحرر من الاستعمار والهيمنة.

وهذه الحالة انعكست على المفاوضات الجارية بين أميركا وإيران، والتي انتهت الجولة الثانية منها بتقدم في المفاوضات والإعلان عن استئناف جولة جديدة منها رغم المناخ العدائي المحيط بها وهو ما يعني في دلالة مباشرة أن أميركا تنازلت عن عرش التصريحات العنترية المليئة بالتهديدات، ونزلت لأرض الواقع الميداني الذي يحترم الردع الذي شكلته إيران وجبهات المقاومة.

وهذه المفاوضات وإن اتّخذت الملف النووي الإيراني عنوانًا لها، ولكن أبعادها أعمق بكثير، فهي مفاوضات إستراتيجية صلبها الإرادة ويتوقف عليها مستقبل الإقليم إن لم يكن مستقبل الصراع الدولي في المديات الطويلة القادمة.

واللافت أن إيران دخلت التفاوض برؤية موحدة، بينما دخلت أميركا بانقسامات في الآراء بين مؤيد ومعارض، وهو ما يعكس حسم إيران لخياراتها وخطوطها الحمراء، ويعكس على الجانب الأميركي ارتباكًا ومعضلة تحاول أميركا إخفاءها بالتهديدات، وبالإعلانات العنترية بأنها لن تسمح بامتلاك إيران لسلاح نووي رغم إعلان إيران الدائم عن عدم نيتها ولا سعيها لامتلاكه.

والنقطة الأولى التي سجلتها إيران كمكسب أولي، هي النجاح في فرض إرادتها بحصر التفاوض على الملف النووي، على عكس الرغبة الأميركية في التفاوض حول المقاومة والتخلي عن دعمها والتخلي عن امتلاك وسائل القوّة والردع.

وهذه الحالة الإيرانية القوية والواثقة لخَّصها علي شمخاني، مستشار قائد الثورة والجمهورية الإسلامية، والذي شدد على أنّ إيران ذاهبة من أجل اتفاق متوازن، لا استسلام، وأن المفاوضين الإيرانيين توجّهوا إلى روما بكامل الصلاحيات للتوصّل إلى اتفاق شامل يقوم على 9 مبادئ، وهي: "الجدية، الضمان، التوازن، رفع العقوبات، رفض نموذج ليبيا/الإمارات، تجنّب التهديد، السرعة، كبح الأطراف المزعجة (كإسرائيل)، وتسهيل الاستثمار".

ومما يعزز هذا المكسب في مضمار الإرادة، هو التزامن مع لحظة إستراتيجية حساسة يراد فرض صورة نصر زائفة بها لمعسكر الطغيان وتسييد حالة توحي بضعف جبهات المقاومة وأن إيران في أضعف حالاتها على خلفية سقوط النظام في سورية وفقدان جبهات المقاومة لأسمى وأعز قادتها.

بينما واقع الحال يقول، إنه رغم صعوبة الأوضاع ودقتها، فإن جميع الجبهات المقاومة لم تتنازل عن ثابت واحد من ثوابتها، والأهم هو امتلاك الإرادة التي تشكّل صلب المعركة ومضمونها الحقيقي.

تزامنت المفاوضات مع حراك دبلوماسي واسع يعكس أهمية وخطورة الأوضاع ويعبر بصدق عن دقة وحساسية اللحظة، وكان لهذا الحراك دلالات واسعة لثبات وصمود المقاومة وعدم استعدادها للمهادنة على حساب أي ثابت من ثوابتها.

ومن هذه الدلالات المباشرة يمكن إلقاء الضوء على النقاط الآتية:

1 - تعليق القائد السيد الخامنئي على المفاوضات بعد الجولة الأولى، والذي جاء فيه: "قد تصل المفاوضات إلى نتيجة، وقد لا تصل، وإيران ليست متفائلة جدًا بها ولا متشائمة جدًا منها". 

واستطراده بالقول: "إننا لا نثق بالطرف الآخر لكننا نثق بقدراتنا، ويجب عدم تكرار الخطأ الذي ارتكب في الاتفاق النووي، أي رهن البلاد بنتائج المحادثات". 

وهي رسالة قوة إستراتيجية تؤكد أن إيران لا تخشى التهديد العسكري ولا الحشد الأميركي للقاذفات الإستراتيجية من طراز "بي 2" بقاعدة دييغو غارسيا البريطانية الواقعة في المحيط الهندي لتخويف إيران وإجبارها على التفاوض تحت الضغط.

2 -  تعليق الحرس الثوري بأن "أي مفاوضات بشأن القدرات الدفاعية خط أحمر، ولا يمكن المساومة عليها تحت أي ظرف".

وذلك ردًا على مبعوث الرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف الذي قال، إن ملفي البرنامج النووي والتسلح يمثلان جوهر المفاوضات.

وهو رد حاسم ويؤكد القوّة والثقة وانتصار إرادة إيران في فرض جدول أعمال التفاوض، وهي رسالة جهوزية لجميع السيناريوهات وأسوأها.

3 - صدور رسائل القوّة من جبهات المقاومة وبلسان قادتها تأكيدًا على الصمود والجهوزية، ويتمثل ذلك في خطاب الشيخ نعيم قاسم للواهمين بضعف المقاومة والحديث عن نزع سلاحها، وإفساد رهاناتهم ببيان جهوزية الحزب لمواجهة ذلك، وتأكيده على ثوابت الحزب واستمرار خط الشهيد القائد نصر الله.

ورسائل القوّة الصادرة من اليمن وتأكيد السيد عبد الملك الحوثي على استمرار المقاومة والتحدي للعدوان الأميركي، إضافة إلى الرسائل الميدانية باستهداف حاملات الطائرات الأميركية والعمق الصهيوني.

ويضاف إلى ذلك رسائل حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية برفض الصفقات الجزئية ورفض الاستسلام والإعلان عن التمسك بشروط المقاومة، إضافة إلى عودة المقاومة للقصف الصاروخي واصطياد جنود ودبابات العدو.

وكلها رسائل تفيد بأن المقاومة ليست في حالة ضعف وأن رهانات أميركا على ربط التفاوض مع إيران بجبهات المقاومة لانتزاع تنازلات هنا أو هناك، هي رهانات باطلة.

4 - زيارة وزير الخارجية الإيراني لموسكو حاملًا معه رسالة من السيد الخامنئي للرئيس الروسي توحي باستعداد إيراني صادق لجميع السيناريوهات، وهي تحمل دلالتين رئيسيتين:

الأولى: التجهيز للرد على أي حماقة أميركية أو صهيونية بالتنسيق مع الصديق الروسي، لأن الرد على أي حماقة سيكون شاملًا لنطاق جيوسياسي واسع يتقاطع مع المصالح الروسية، ولأن تداعيات التفاوض سلبًا أو إيجابًا سيكون لها انعكاس على معسكر مناهضة الهيمنة الأميركية كله بما في ذلك روسيا والصين، وهو تأكيد بأن إيران دخلت المفاوضات ولا تعرف نتائجها وكلّ  ما تعرفه هو الثوابت والخطوط الحمر بها بمعزل عن النتائج والتداعيات.

الثانية: هناك دلالة مهمّة تدحض الشبهات والدعايات التي حاولت ترويج تفكيك التعاون الإستراتيجي بين إيران وروسيا، كامتداد لدعايات الصفقات المزعومة بين ترامب وبوتين بخصوص أوكرانيا مقابل التخلي عن التعاون مع إيران، أو على الجانب الآخر الضغط على إيران في المفاوضات لتقليص التسلح الإستراتيجي والتعاون مع الروس.

وهو ما أكده الجانبان، حيث صرح الوزير عراقجي أن هذه الرسالة تتناول آخر الأحداث في العالم والمنطقة، إضافة إلى تطوير العلاقات الثنائية، وأشار إلى أن "الرسالة تظهر للعالم أجمع أن موسكو شريك إستراتيجي لطهران"، وذهبت التصريحات الروسية إلى نفس المضمون.

5 - زيارة وزير الدفاع السعودي لطهران، ولقاؤه السيد الخامنئي لتسليمه رسالة من الملك سلمان، تعكس حجم المخاوف الإقليمية من حساسية اللحظة وخطورة التهديدات الأميركية وتداعياتها والحرص على النأي بالنفس عن التورط بالصراع.

6 - سيل التسريبات الإعلامية بمنع ترامب لهجوم "إسرائيلي" كان مخطّطًا له وأنه فضل التفاوض، وهذه التسريبات ربما تكون مقصودة ويمكن قراءتها كجزء من حرب نفسية للتفاوض تحت الضغط ولإقناع إيران بمراعاة المخاوف الصهيونية وتوسيع جدول أعمال المفاوضات لتشمل التسلح الإستراتيجي ودعم المقاومة تجنبًا للعدوان.

الجولة الثانية الكاشفة

وكانت الجولة الثانية كاشفة لكثير من الأمور، أهمها الثبات الإيراني على الخطوط الحمراء رغم محاولات أميركا تصدير صورة دعائية بأنها تمسك بالمقود وتفرض الشروط، وهو ما أفسدته إيران بإعلانها عدم الثقة وبأنها ترصد خطابين أميركيين متناقضين، وأنها ستتعاطى مع خطاب طاولة المفاوضات، لا مع التصريحات الإعلامية.

وبالتالي، فإن استئناف المفاوضات والدخول في جولة ثالثة يعني تسييد الإرادة الإيرانية وأن الأمور تسير بكرامة وندية، وأن المقاومة بجميع جبهاتها تحتفظ بالردع والقوّة، وهو ما عكسته تصريحات جميع جبهاتها، في الجمهورية الإسلامية وحزب الله واليمن والمقاومة الفلسطينية.