الأبعاد الجيوبولتيكية لعملية "طوفان الأقصى" وتأثيرها على الانتخابات الأميركية

pattern
details
24-09-17

الأبعاد الجيوبولتيكية لعملية "طوفان الأقصى" وتأثيرها على الانتخابات الأميركية

لا شك بأنّ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي يمثّل الصراع الرئيسي في منطقة الشرق الأوسط، كما يمكن اعتباره أحد حلقات "أحزمة التحطم" التي تشكلت في المنطقة، ضمن حلقات صراع أخرى - مزاحمة لهذا الصراع – ولكنها ذات طابع سياسي ومذهبي[1]. فبالرغم من تأثير هذه الصراعات على النظامين الإقليمي والدولي والانشغال بتحولاتها ومجرياتها إقليمياً ودولياً كالصراعات الدائرة في ليبيا أو السودان أو في سورية وغيرها من الصراعات الدائرة في منطقة غرب آسيا، غير أنّ الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي أثبت عبر العملية الأخيرة التي قامت بها "كتائب عز الدين القسام" الجناح العسكري لحركة حماس في السابع من أكتوبر عام 2023 والتي أطلق عليها "طوفان الأقصى" وما تبعها من عدوان "إسرائيلي" على غزة وفتح لـ"جبهات الإسناد" في عدة جبهات تمثلت في لبنان "المقاومة الإسلامية" والعراق "المقاومة العراقية" وسورية واليمن ما أكد بأنّ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي ما يزال يتمتع بمقومات الصراع الرئيسي، وذلك بالنظر إلى موجات تأثيره على العديد من دول الإقليم واستقرار المنطقة بشكل عام على النحو الذي نشهده في اللحظة الراهنة.

وما يعنينا هنا البحث في الأبعاد الجيوبولتيكية لـ"طوفان الأقصى" وتأثيرها على العلاقات الإقليمية والدولية بشكل عام وعلى الانتخابات الأميركية  بشكل خاص في ظل تصاعد حدة الصراع وتصلب موقف الولايات المتحدة تجاه دعمها "إسرائيل" مقابل تصاعد الرفض الشعبي الأميركي لهذا الدعم وانعكاسه في صندوق الانتخابات الرئاسية الأميركية. في محاولة للإجابة على الإشكالية التالية:

ما هي الأبعاد الجيوبولتيكية لعملية "طوفان الأقصى"، وكيف تنعكس هذه العملية على الأنتخابات الأميركية؟

والتي تثار ضمنها عدة تساؤلات منها:

هل تجاوزت عملية طوفان الأقصى بمفاعيلها حدودها الجغرافية؟

كيف أثرت هذه العملية على دول الطوق المحيطة بفلسطين؟

كيف كانت استجابت دول محور المقاومة لهذه العملية؟

ماهي انعكاسات عملية طوفان الأقصى الإقليمية والدولية؟

ما هي تداعيات العملية على الانتخابات الأميركية؟

وتستند إلى عدة فرضيات منها:

أن العملية تجاوزت بمفاعيلها حدودها الجغرافية

استجابة دول محور المقاومة للعملية كانت استجابة استراتيجية

تغيير قواعد الاشتباك

تغيير الرأي العام الأميركي تجاه دعم إسرائيل

صدّرت "طوفان الأقصى" الرواية الحقيقية الفلسطينية وكشفت زيف مزاعم إسرائيل

وعليه فإننا سنبحث في الأبعاد الجيوبولتيكية لـ"طوفان الأقصى" في المطلب الأول وسنبحث في تأثيرها على الانتخابات الأميركية في المطلب الثاني.

 

المطلب الأول: مفهوم الجيوبولتيك والتداعيات الجيوبولتيكية لـ"طوفان الأقصى"

يَعود مُصطلح علم الجيوبوليتيك إلى بداية القرن العشرين، وضعه العالم السياسيّ السويديّ رودولف كيلين، الذي استلهم المُصطلح من كتاب "الجغرافيا السياسية" للجغرافي الألماني فريدريش راتزيل، ثم انتشر المُصطلح بشكل كبير في أوروبا خلال الحربين العالميّة الأولى والثانية. وتراجعت أهميّته بعد الحرب العالميّة الثانية ولكن تأثيرها على السياسات الدوليّة استمر خاصّة خلال فترة الحرب الباردة. وتُعرّفه مجلّة الجيوبوليتيكا بأنّه العلم الذي يربط السياسة بالأرض فهي تعتمد بذلك على الأُسس الجغرافيّة فالجيوبليتيكا يجب أنْ تكون الضمير الجغرافي للدولة([2]).

وتطرّق العديد من الباحثين لتعريف "الجيوبولتيك"، خاصّة الذين اهتموا بدراسة تأثير الجغرافيا على السلوك السياسي فيعرّفها "كوهين" بأنّ جوهر الجيوبوليتيك يكمُن في دراسة العلاقة القائمة بين سياسة القوّة الدوليّة والخصائص الجغرافيّة المُنسجمة معها، وخاصّة تلك التي يمكن أن تتطور بموجبها تلك القوة.([3]) ويعرّفه " Mawil Otto "أحد أتباع "هوشوفر" بأنّه يُعنى بالدولة ككائن حيّ، فهو يبحث في الدولة من حيث علاقاتها ببيئتها ومجالها وحلّ جميع المشاكل في مجالها الجغرافي، بدراسة المطالب المكانيّة للدولة، بينما تفحص الجغرافيا السياسة ظروف مجالها الأرضي الحالي([4]).

ويراها الجغرافي الأميركي  "weigert" بأنّها استعمال الأُسُس والمبادئ الجغرافيّة في لعبة القوّة([5])، كما تُعرّف على أنّها: " العلم الذي يدرّس حالة الدولة في المستقبل وتوجيه مقدراتها الإستراتيجيّة الطبيعيّة والبشريّة والحضاريّة والفكريّة لتحقيق ذلك بامتلاك فلسفة القوّة وإنضاج روح الأمّة([6])". ويراها فريديريك راتزل بأنّها الجغرافيا المُسخرة لخدمة الدولة([7])، أمّا هوشوفر؛ فعرّفها بأنّها دراسة علاقات الأرض ذات المغزى السياسي([8]). ويراها قاموس لوغمان الإنجليزي المعاصر بأنّها دراسة دول العالم والبحار والأنهار والمدن وغيرها على سطح الأرض([9]).

المبحث الأول: طوفان الأقصى وجيوبولتيك المنطقة المتوسطية 

تتعدد حلقات الصراع وتتزاحم سواء أكانت إقليمية أو دولية وسواء كانت بالوكالة أو الأصالة إلا أنّ الأنماط الصراعية مجتمعة تحفزها الهياكل الجيوسياسية المحورية أو ما يسمى بـ"أحزمة التحطم"، بحسب ما أوضحه "فيليب كيلي"، في كتاباته بشأن "تصاعد الصراع الإقليمي من المنظور الجيوبوليتيكي"[10]، وكذلك "كولن غراي" أحد البارزين في إثارة موضوع الصراع باعتباره متأصلًا في علم الجيوبوليتيك أو الجغرافيا السياسية[11]. وإذا أردنا إسقاط مفهوم "أحزمة التحطم" على المنطقة الشرق أوسطية بشكل عام وشرق المتوسط بشكل خاص فإننا نرى فيها العديد من الصراعات التي يعد السبب الأساسي لهذه الصراعات هو الأهمية الجيوبولتيكية للمنطقة ومساعي الدول الكبرى لبسط النفوذ والسيطرة على هذه المنطقة التي تتمتّع بأهميّة خاصّة على مدار التاريخ، سواء من حيث الموقع الجغرافي الفريد الذي يَضم ممرّات بحريّة طبيعيّة مثل مضيقي البوسفور والدردنيل، وصناعيّة مثل قناة السويس ذات التأثير المحوري في حركة التجارة العالميّة. أو من حيث وقوعها في خضمّ الأحداث الفاصلة في تاريخ العالم([12]).

وبالتالي وبما أنّ فلسطين المحتلة وقطاع غزة والضفة تقع في قلب هذه المنطقة فإنها تكتسب مزيداً من الأهميّة الاستراتيجيّة والاقتصاديّة، بما تمتلكه من مخزون كبير من الغاز، وقربها من الدول الأوروبيّة الفقيرة بمصادر الطاقة، ولأنّ فلسطين التاريخية التي مُنحت وفق وعد بلفور لليهود خلال الحرب العالميّة الأولى ما زالت تعيش تحت وطأة الاحتلال وممارساته العنصرية والاستيطانية والهمجية. وإذا كان البُعد الاقتصادي للثروة الغازيّة سبب رئيسي للصراع في غزة، فإنّ البُعد السياسي يشكل سبباً آخر له.

وباعتبار انّ الصراعات الدائرة في المنطقة متأصلة في الأهمية الجيوبولتيكية لهذه المنطقة فإنها تشكل إغراءات تجذب القوى الخارجية الأكبر حجماً للتدخل لصالح المتصارعين المحليين، وذلك في إطار توازنات القوى بين الدول الكبرى المتنافسة على المستوى الدولي، إضافة إلى توازنات القوى بين الدول المتنافسة على المستوى الإقليمي، مما يؤدي إلى تشكيل التحالفات والتحالفات المضادة للأطراف المحلية مع الأطراف الدولية والإقليمية في مواجهة خصومها المحليين والاستراتيجيين من خلال خيارات سياسية "مصلحية" قد لا تكون ذات خصائص إقليمية محددة في بعض الأحيان، كأن تتخطى هذه التحالفات بعض الدول الإقليمة على سبيل المثال.

وإذا قمنا بإسقاط هذا التنميط الصراعي على حالة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي فإننا سنجد بأنه متلبس بهذه الحالة النمطية من حيث توفر حواضن دعم إقليمية ودولية للأطراف المتصارعة، فمن ناحية، يوفر العالم الغربي (الأميركي - الأوروبي) الدعم غير المحدود لإسرائيل في مواجهاتها العسكرية والسياسية.  وفي المقابل، توفر دول "محور المقاومة" حاضنة دعم تاريخية للجانب الفلسطيني، وكذلك بعض الدول العربية والإقليمية. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ "الحاضن العربي" تحديداً تعرض لتراجع ملحوظ قياساً لما كان عليه خلال الفترة التي سبقت نهاية السبعينيات من القرن الماضي، والذي بدأ مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد ما بين مصر و"إسرائيل" وما بعدها من اتفاقيات تمثّلت بأوسلو ووادي عربة وصولاً إلى "صفقة القرن" ومشروع "السلام الإبراهيمي" والتي صاغتها واشنطن لتوقيع اتفاقيات "السلام" مع "إسرائيل" تستهدف من وراءه تحييد حالة العداء مع الأطراف العربية الداعمة للقضية الفلسطينية، في مقابل تطبيع العلاقات معها وجني مكاسب ذلك على مستوى العلاقات الثنائية بين الطرفين دون أن ينسحب إلى المستوى الاستراتيجي المتعلق بالقضية الفلسطينية.

بالتالي من الممكن القول أن "طوفان الأقصى" حوّل المنطقة برمّتها إلى ​​"برميل بارود" وهو اللقب الذي كان ينتمي إليه البلقان في التسعينيات، في مقابل الرد الإسرائيلي على هذه العملية بشنه عدواناً على غزة حتى بات هذه العدوان وفق أهدافه التي أعلنتها الحكومة الإسرائيلية المتمثلة بالقضاء على حماس وتحرير الأسرى كـ "صندوق باندورا" ولغاية اليوم لم يستطع تحقيق أهدافه ولا حتى التراجع بل وغرق في هذا الصندوق تحويه هذه المنطقة من تناقضات بين دوله وقومياته وثرواته. فأضحت غزة بشكل خاص وفلسطين بشكل عام أحد أهم محاور الصراع بين القوى الإقليمية والدولية والبوتقة التي تشهد مخاض الانتقال من نظام عالمي أحادي القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب. ليتضح أنّ ما يحدث في غزة الآن في واقع الأمر ليس بمعزل عن ما يحدث من تصارع القوى العالمية والإقليمية لتحقيق مكاسب في المنظومة الدولية لتتجه نحو تسجيل حضور بما تملكه من أوراق قوة للتفاوض على شكل النظام العالمي الجديد وبالتالي الاصطفاف في المقدمة لهذه المنظومة.

 

الفرع الأول: التداعيات الجيوبولتيكية لطوفان الأقصى وانعكاسها على "صراع الحضارت"

شكّل تاريخ السابع من تشرين الأول/أكتوبر مفصلاً تاريخياً في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي، أطلقت حماس ‏وجماعات فلسطينية مسلحة أخرى يوم السبت 7 أكتوبر 2023، وهو تاريخ العديد ‏من ‏الأعياد اليهودية، سلسلة من الهجمات المنسقة أطلقت عليها اسم عملية "طوفان ‏الأقصى"، والتي يشار إليها في إسرائيل باسم السبت الأسود، ‏وهكذا بدأت حرب 2023 ‏بين إسرائيل وحماس، وقال خبراء عسكريون إن العملية كانت الهجوم ‏الأكثر إثارة للدهشة منذ حرب ‏ السادس من أكتوبر، ووصفها البعض بأنها مناورة استخباراتية غير مسبوقة‎‏، أخذت إسرائيل على حين غِرة وهزتها بالفعل، وخلق توقيت العملية -الذي تزامن مع يوم السبت، ‏يوم العبادة والراحة اليهودي- عامل صدمة ‏جعل من الصعب على القوات الإسرائيلية الرد ‏على الفور. علاوة على ذلك، فإن التسلل من نقاط ‏متعددة جوية، وبرية، وبحرية، فاجأ مراكز الدفاع ‏الإسرائيلي[13].

ولا نبالغ إن قلنا بأن هذا التاريخ سيكون مفصلياً على صعيد الصراع العالمي، وتحديداً في ما يتعلق بصدام الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي الجديد بعد أن تم تجاوز قانون "الامتناع" و "الوساطة المشتركة" و "العوامل المشتركة". هذه القوانين الثلاثة التي تحدث عنها صامويل هنتنجتون في صدام الحضارات، معتبراً أن قبولها يجنّب حروباً رئيسية بين الحضارات ويضع حداً للصدام بين الحضارات، وبأنّ بعض الدول سيجد صعوبة في قبولها وتحديداً الولايات المتحدة. وبالفعل، وجدت الولايات المتحدة صعوبة في قبولها فلم تمتنع عن إثارة الصراعات وتغذيتها، ولم تقبل بالوساطة المشتركة من قبل روسيا وغيرها لإنهاء الصراع، ولم تبحث عن العوامل المشتركة بين الحضارات لتكون أساساً يبنى عليه السلام والأمن الدوليان.

وما حصل بعد سنوات من نظرية هنتنجتون هو دخول دول المركز في صراعات داخل الحضارات، والتخلي عن قانون الوساطة المشتركة، وكذلك التخلي عن قانون الامتناع وعدم قبول التفاوض بين دول المركز مع بعضها البعض لاحتواء أو إيقاف حروب التقسيم الحضاري بين دول أو جماعات داخل حضاراتها، إضافة إلى التخلي عن قانون العوامل المشتركة وعدم البحث عن تلك القيم والممارسات المشتركة بين شعوب جميع الحضارات وتوسيع تلك المشتركات والتعنت الأميركي – الغربي بفرض أفكاره وقيمه وممارساته على شعوب الحضارات الأخرى.

هذا ما جعل المتطلب الأول للحضارة والمتمثل في "القانون والنظام" ينهار أمام هذا الصدام، وبات العنوان الأساسي لمرحلة ما بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر هو "صدام الحضارات"، والذي حكماً سيرسم نظاماً عالمياً جديداً يقوم على "الحضارات – الأقطاب" وهي ست حضارات وفق ما صنفها الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين (الصين +تايوان مع أقمارها الصناعية، روسيا كوحدة متكاملة للفضاء الأوراسي بأكمله، الهند ومنطقة نفوذها، أميركا اللاتينية مع قلبها البرازيل + الأرجنتين، أفريقيا جنوب أفريقيا + إثيوبيا، مع مالي وبوركينا فاسو والنيجر وغيرها، المحررة من النفوذ الاستعماري الفرنسي، العالم الإسلامي في كلا الإصدارين - إيران الشيعية والسعودية السنية)، مقابل "حضارة غربية تضم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان".

وبات واضحاً أن الحضارة الغربية لا تنعم بالمتطلب الأول المتمثّل في "القانون والنظام" باعتبارها تتعامل مع الحضارات الأخرى بمبدأ "العبد والسيد"، وصاغت نظاماً أرادت فرضه على العالم أجمع متجاهلة وجود حضارات أخرى لها قانونها ونظامها، وبالتالي ثقافتها وتاريخها وإرثها وعاداتها وتقاليدها ومعتقداتها وتنظيمها العسكري والسياسي والاقتصادي الذي يشكل قوة حضارية تنصهر فيها مكونات الهوية الثقافية والدينية والاقتصادية والسياسية لتشكل كلاً متكاملاً لخصوصية كل حضارة عن الأخرى. 

واعتقدت الحضارة الغربية أنها حضارة فريدة، وبأنها المصدر الفريد لأفكار الحرية الفردية والديمقراطية السياسية وحكم القانون وحقوق الإنسان والحرية الثقافية، وبأنّ الأفكار الغربية هي التي صاغت الحريات وليس الأفكار الآسيوية ولا الأفريقية ولا اللاتينية ولا العربية ولا الروسية، وفي أوج ما تسعى إليه الحضارة الغربية للهيمنة العالمية، وتظهير دورها في حماية الحريات الفردية معنونة بالليبرالية الحديثة والقائلة بقبول الشواذ الجنسي والشواذ تجاه الأطفال ولجوئها إلى فرض تلك الأفكار عبر التعميم والإلزام في تطبيقها بحجج إنسانية وحقوقية بدأت بالتدهور تنازلياً، وتحققت رؤية هنتنجتون في عودة الحضارات التي وجدت في الحضارة الغربية الوجه اللاأخلاقي الذي يسعى لإلغاء وطمس أي وجه حضاري آخر من الحضارات الست السابق ذكرها أو غيرها.

وهنا، تأتي أهمية تاريخ السابع من تشرين الأول/أكتوبر وعملية "طوفان الأقصى" لكونه يعدّ لحظة انفجار فوهة البركان الخامد في وجه تلك الحضارة الغربية، واتضحت الاصطفافات للحضارات الست ضدّ الغربية – الأميركية، وانكشف أمام العالم أجمع بما فيه من حضارات زيف وكذب تلك الحضارة القائلة بحقوق الإنسان والحريات فكانت "إسرائيل" (القشّة التي قسمت ظهر البعير) لتلك الأفكار الغربية التي جنّدت كل إمكانياتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية والتكنولوجية لدعم "إسرائيل" ومساندتها اللامحدودة ضدّ المدنيين في فلسطين، وغضّت الطرف عن جرائم الإبادة والتطهير العرقي وجرائم الحرب الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين فناقضت نفسها وناقضت ما صاغته من مبادئ وقوانين دولية.

وهنا، لن تكون نهاية "إسرائيل" اقتربت فحسب، بل نهايتها مع نهاية الحضارة الغربية التي أنشأت وخلقت "إسرائيل" من العدم لتكون درّة ابتكاراتها اللاإنسانية ودرّة ابتكاراتها العنصرية والإرهابية متمثّلة بآلة قتل وحشية في المنطقة الشرق أوسطية لتحقيق مآرب وأهداف بعيدة كل البعد عن ما تنادي به تلك الدول الغربية من شعارات حقوقية وإنسانية، ولم تعد تنطلي أكاذيبهم حتى على شعوبهم الذين ملأوا الشوارع والساحات العالمية مطالبين بحقوق الشعب الفلسطيني ليتضح جليّاً أن كل ما قامت به الحضارة الغربية – الأميركية منذ نشأتها هو طمس الحضارات الأخرى وإبادة الأفكار الأخرى والتطهير العرقي لـ"السود" أينما كانوا على هذه الأرض نصرة لـ"البيض" في جرائم موصوفة وتامة الأركان، في مسعى لسرقة التاريخ الحضاري بأكاذيبهم ورواياتهم وأساليبهم اللاإنسانية. 

وبالتالي، سقطت تلك الحضارة الغربية وتهاوى منظّروها أمام هذا الطوفان كما سقطت المستعمرات الإسرائيلية وتهاوت "إسرائيل" أمام طوفان المقاومة الفلسطينية، وبات الغرب أجمع مع "إسرائيل" أمام مأزق عالمي، بل وقعوا في شرّ أعمالهم وعلقوا في مستنقع اللاعودة، وكان حضور الرئيس الأميركي جو بايدن إلى "إسرائيل" وما سبقه من تحريك للأسطول الأميركي وحاملات الطائرات الأميركية والبريطانية وبيانات الدعم اللامحدود من ألمانيا وفرنسا وغيرها تأكيداً لهذا الاصطفاف الانتحاري في وجه اصطفافات الحضارات الأخرى التي تمتلك القوانين الثلاثة التي تحدّث عنها هنتنجتون، وأهمها العوامل المشتركة بين الحضارات والتواصل الثقافي فيما بينها، وأهم عامل بين تلك الحضارات رفضها تطبيق الفردية المطلقة المتمثلة بالمثلية الجنسية والتزامها بالعائلة كأساس للمجتمعات.

أما العامل الآخر الذي طغى كعامل مشترك فهو وقوفها مع الحق الفلسطيني في أرضه، وكان رفض الولايات المتحدة والغرب الأوروبي للوساطة المشتركة التي تقدّمت بها روسيا والبرازيل في مجلس الأمن لحماية المدنيين وإعلان دولة فلسطين هو ما وضع الغرب في كفة الميزان الخاسر في صدام الحضارات، وجعلها في "مزبلة" التاريخ لكون هذه الحضارة الغربية كشفت عن "أنيابها" الدموية، وباتت أفلام هوليوود التي تحاكي "آكلي لحوم البشر" الصورة الحقيقية للحضارة الغربية، وحكماً "إسرائيل" ربيبة تلك الحضارة..

وبالتالي، كل ما نشأ عن تلك الحضارة من مبادئ دولية ستسقط كما ستسقط معها "منظمة الأمم المتحدة" والتاريخ يشهد مراحل صاغها ووضعها المنتصر.. ورأينا الاصطفافات واضحة تجاه هذه القضية وتنصل الدول العربية من أوامر الولايات المتحدة ورفضها الانصياع لها متجاهلة حق أهل الأرض وأصحاب القضية.

وهذا يعني أنّ معطيات المشهد الراهن، وما خلفته العملية العسكرية الفلسطينية "طوفان الأقصى"، من توابع وتداعيات جيوبوليتيكية، كشفت عن أن قراءة هذه التداعيات غير ممكنة بالمنظور الضيق للأدبيات التقليدية للصراع، خاصة وأنها لاتنفك عن التحولات الجيوبوليتيكية للسياق الدولي والإقليمي، من ناحية احتدام التنافس الدولي بين القوى الكبرى، وكذلك المشروعات الإقليمية المُشار إليها سلفًا، والتي سعت إلى إنهاء الصراع دون حلول تشمل الأطراف الرئيسية للنزاع، في إغفال تام لقدرة أطرافه (الطرف الفلسطيني) على تجديده وبث الروح فيه من جديد في إطار أعمال المقاومة المسلحة.

ومع انطلاق عملية "طوفان الأقصى" التي باغتت جميع الأطراف الإقليمية والدولية، فقد أوجدت معطيات جديدة للصراع جعلت حسابات الطرف الفلسطيني حاضرة كرقم مهم في أية معادلات إقليمية ودولية خاصة بمنطقة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى تشكيلها نقاط جذب لتحفيز مشاركة خصوم الولايات المتحدة على غرار روسيا التي برز حضورها خلال التعامل مع تداعيات العملية العسكرية الفلسطينية، على نحو عكس إشارات محتملة بالتدخل لاستغلال ما يحدث من أجل موازنة نفوذ واشنطن وتضييق الخناق عليها في المناطق الجيوسياسية لمصالحها ومصالح حلفاءها الاستراتيجيين على النحو الذي يسهم في تخفيف الضغط الغربي في الفضاءات الحيوية لموسكو، وهو المنظور ذاته الذي تتعامل من منطلقه إيران، وإن كانت بقدرة تأثير أكبر من تلك التي تملكها موسكو نظرًا لمراكز نفوذها المنتشرة عبر الوكلاء المحليين في مناطق التماس الجغرافي لإسرائيل.

المطلب الثاني: تأثير طوفان الأقصى على الانتخابات الأميركية

أثبتت عملية "طوفان الأقصى" والعدوان الإسرائيلي على غزة بأن الميدان أو "جيوبوليتيك الحرب" هو الذي يحدد المسار والمصير. وباتت حسابات اللاعبين مترابطة مع بعضها البعض، وخلال فترة وجيزة، تخطى حجم تعقيدات الحسابات والتعاملات الجيوسياسية، التوقعات الأولية. وبدا واضحاً القلق الأميركي من أن تتحول عملية "طوفان الأقصى" إلى حرب إقليمية، والأهم من ذلك، أن أمريكا صارت قلقة جداً من الانهيار الأمني – السياسي لإسرائيل. خاصة بعد أن شاهد الأمريكيون كم هي هشاشة ووهن دعائم الكيان الاسرائيلي، بينما عيونه الأمنية ضعيفة، وانسجامه السياسي يقترب من الصفر. سواء من طوفان الأقصى أو ما تلاها من جبهات للإسناد في لبنان والعراق واليمن.

ويمكننا هنا القول أنه بالرغم من وجود ثلاث قضايا أساسية تهم الناخب الأميركي  وهي ذات شأن داخلي وتسيطر على نتائج الانتخابات والمتمثلة بـ"الهجرة والجريمة والاقتصاد" ولكن جاءت عملية طوفان الأقصى والعدوان على غزة لتضيف قضية رابعة ذات شأن خارجي تتعلق بحقوق الإنسان من جهة وبالاقتصاد من جهة أخرى كون الناخب الأميركي بات ممتعضاً من الدعم الأميركي المالي اللامحدود لإسرائيل وكذا لأوكرانيا والتي يعتبر نفسه يدفعها من الضرائب المفروضة عليه. وفي مقارنة لموقف الرأي العام الأمريكي حول القضايا السياسة الخارجية بين عامي 2023 و2024، وفقاً لاستطلاع للرأي العام الأمريكي، تبين أن الشأن الداخلي وتحديداً الاقتصادي قد حظي بالأولوية لدى 76% سنة 2024، و75% سنة 2023، بينما حظي الشأن الخارجي باهتمام نسبي من 38% (سنة 2024) مقابل 18% (سنة 2023)، وبالرغم من أنّ المناقشات في مختلف الانتخابات الأمريكية (التمهيدية أو التشريعية أو الرئاسية) تدل على أن الجمهوريين أكثر عناية بالشأن الخارجي من الديموقراطيين[14]، إلا أنّ سلبية المجتمع الأمريكي ككل (سواء جمهوري أو ديمقراطي) تجاه القضايا الخارجية باتت تتأكد شيئاً فشيئاً من مؤشر مدى متابعة هذه القضايا، وفي حالة طوفان الأقصى تبين أن 26% من الأمريكيين يتابعون بشكل كبير أخبار الحرب في غزة، بينما 37% يتابعونها بشكل بسيط ومتفرق، و36% لا يتابعونها[15]، وتأتي هذه النتائج رغم أن المعدل اليومي للضحايا المدنيين في حرب غزة الحالية هو الأعلى في تاريخ الحروب[16]، إضافة إلى أن عشرات المنظمات الدولية ذات الطابع الإنساني تنشر بياناتها تباعاً حول الأوضاع الإنسانية الرهيبة في قطاع غزة[17]، ناهيك عن أن معدل المظاهرات بخصوص حرب غزة يصل إلى 639 مظاهرة أسبوعياً (منها 602 تأييداً للفلسطينيين، و37 لتاييد "إسرائيل)[18].

ولكن عند النظر بأن "حرب غزة" حظيت باهتمام 5% يفوق ما حظيت به قضية أوكرانيا وبفارق 1%[19]. فإنّ ذلك يدل على تأثير القضايا الخارجية على مسار ونتائج الانتخابات وعلى الدعم الشعبي الأميركي لإسرائيل، وربما في هذه النتائج ما يفسر أن استنتاجات معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي التي نوَّه فيها على استطلاعات الرأي الأمريكية إلى تأثير طوفان الأقصى في عدد من الشرائح وخصوصاً داخل الحزب الديموقراطي من ناحية، وأن هذا التأثير يشير إلى تزايد واضح مع تطور الأحداث في غزة من ناحية ثانية، ودعا الحكومة الإسرائيلية للتنبه لانعكاسات ذلك في الواقع الداخلي الأمريكي[20]. يشير استطلاع للرأي العام الأمريكي حول الشأن الخارجي أن نسبة 20% تهتم بالشأن الخارجي من زاوية محددة وهي “القلق من مزيد من الانغماس الأمريكي في الشؤون الدولية الخارجية”، وبالتالي النزوع نحو إضعاف النزعة التدخلية في الشأن الدولي، وهو الأمر الأكثر وضوحاً في توجهات الجمهوريين (45%) مقابل (33%) في توجهات الديموقراطيين.

المبحث الأول: تداعيات "طوفان الأقصى" على المجتمع الأمريكي

لا بدّ من التمعن في توجهات المجتمع الأمريكي من طوفان الأقصى، فقد دلّ استطلاع للرأي العام الأمريكي على نتائج تشير لبعض ملامح التغير في المجتمع الأمريكي تجاه "إسرائيل"، فكان 30% يؤيد الدعم الأمريكي لـ"إسرائيل" مقابل انتقاد 24% لهذا الدعم و20% محايد و27% غير متأكد[21].

وتجدر الإشارة أن الحرب في غزة فرضت توازنات جديدة في المنطقة وعليه فمن المرجّح أن تشهد المرحلة المقبلة تطوير أدوات وأساليب جديدة للصراع وإدارتها بما يتناسب مع التوازنات الجديدة ضمن مستوى تشغيلي محدد لن يصل إلى مستوى الحرب لكن ولإنّ المطلب الفلسطيني هو الأحق في هذه “اللعبة الدولية” بالتالي فإنّ "طوفان الأقصى" والعدوان الإسرائيلي على غزة سيكون حاسماً في صناديق الانتخابات الأميركية بعد خسارة الملفات الأخرى، ومع انتقال المقاومة إلى الردع الاستراتيجي باتت فاعلاً مرفوعاً بالنصر فارضة وجودها ليس محلياً فحسب بل إقليماً ودولياً، حاضرةً بقوة في إرساء موازين القوى العالمية..

وإلى أن تتم تلك الإنتخابات فإن ما يبدو واضحاً وجلياً بأن الحرب في غزة أدت إلى تغيرات في الموقف المجتمعي والحزبي من إدارة بايدن وهذه التغيرات تشير إلى انقسام واضح في المجتمع الأمريكي، فنسبة الشباب المؤيدين لـ"إسرائيل" هي 35% والمعارضين 41%، وبالتالي فإنه حكماً هذه التغيرات ستؤثر في المشهد الانتخابي الأميركي خاصة وأنّ المقارنة بين التوجهات قبل الطوفان وبعده تُشير إلى تراجع نسبة التأييد لـ"إسرائيل" في المجتمع الأمريكي بمعدل 7% مقابل ارتفاع التعاطف مع الفلسطينيين بنسبة 3%[22].

 وهذا التغيير في المزاج العام ضمن المجتمع الأميركي انعكس على مواقف الأحزاب تجاه "إسرائيل" داخل الحزبين الجمهوري والديمقراطي وظهر ذلك من خلال استطلاع حول إدارة بايدن للأزمة في غزة ووفق الاستطلاع فإنّ 51% من الجمهوريين يعارضون تلك الإدارة مقابل تأييد 28% فقط لهذه الإدارة، في حين أيّد 44% من الديمقراطيين لهذه الإدارة وعارضها 33%[23]، وفيما يتعلق بطبيعة التدخل الأمريكي فقد طالب 16% من الأمريكيين بزيادة الانتشار العسكري الأمريكي في الخارج، في حين رأى 70% من الأميركيين بأن التدخل بمشاركة دول أخرى هو الأفضل[24]، وهو ما دفع باتجاه سعي الولايات المتحدة أن تتدخل في تداعيات طوفان الأقصى مع أطراف أخرى، على غرار تحالف حارس الازدهار الذي شكلته الولايات المتحدة للرد على جبهة الإسناد اليمنية،  وعليه فإنّ "طوفان الأقصى" بالنسبة للأميركيين هي معضلة دولية من الممكن أن تجر الولايات المتحدة للتدخل الواسع وهو ما لا يريدونه.

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ السياسة الخارجية الأميركية هي دوماً في خدمة سياستها الداخلية وأن الاهتمام بأي شأن خارجي سواء في الشرق الأوسط أو غيره هو اهتمام  مرتبط بوزن المنافع التي تعود على الولايات المتحدة من هذا الشأن الخارجي، وهنا تتباين مواقف القوى الحقوقية والأفراد والشركات وجماعات الضغط واتجاهات الأحزاب…إلخ، فعلى سبيل المثال من الملاحظ مثلاً يميل موقف الرأي العام الأمريكي نحو مزيد من النظرة العدائية للصين سواء كان (جمهوري، ديموقراطي، مستقل)، حيث ينظر 81% من الجمهوريين إلى الصين كعدو، مقابل 59% من المستقلين، و56% من الديمقراطيين[25] وفي المقابل تكشف دراسة لغرفة التجارة الأمريكية بأن 50% من الشركات الأمريكية تعد الصين إحدى الأولويات لها في مجال الاستثمار، كما أنّ 77% من هذه الشركات لا تفكر في نقل نشاطها الاقتصادي خارج الصين[26]، وهو ما يعني أن الأهتمام الأميركي بالشأن الخارجي ليس مرتبط بمنظومة قيم مطلقة بل يرتبط بدرجة المنفعة أو الضرر.

وعليه فإن الاهتمام بموضوع طوفان الأقصى مرتبط بانعكاسات هذا الطوفان على شبكة المصالح الأمريكية، فلو شعرت الشركات الأمريكية أن المقاطعة لمنتجاتها تزداد فإن ذلك سينعكس على توجهات الحكومة والناخبين، أو أن مشتريات السلاح العربية تتناقص من الشركات الأمريكية، أو أن ما يجري يؤثر على الاقتصاد الأمريكي أو يزيد من نسب الاضطراب الاجتماعي…إلخ، بالتالي فإن الناخب الأمريكي سيولي ذلك اهتماماً نسبياً في توجهات المرشحين للرئاسة.

الفرع الأول: تداعيات طوفان الأقصى على الناخب الأمريكي

لا شك أن إحدى القضايا المؤثرة في الناخب الأميركي والتي تتعلق بالشأن الخارجي سلباً أو إيجاباً هي وجود القوات الأميركية في الخارج وتحديداً في بؤر الصراع وكانت سابقاً الحرب الفيتنامية ووجود القوات الأميركية والخسائر التي تكبدتها ذات تأثير كبير على المجتمع الأميركي الذي تظاهر رفضاً لسياسة الإدارة الأميركية حينها وعلى ما يبدو اليوم أن المشهد يتكرر وأنّ اتساع المواجهة في طوفان الأقصى وتصاعد احتمالية تحولها إلى حروب إقليمية سيقود حكماً إلى مزيد من نشر القوات الأمريكية في المنطقة، وهو ما سيجعل الناخب الأمريكي أكثر اهتماماً بتداعيات الطوفان.

كما أنّه من تداعيات الطوفان على الداخل الأميركي كان اندلاع المظاهرات والمظاهرات المضادة والتي أحدثت اضطراباً اجتماعياً عزز من الاهتمام الشعبي الأميركي بالشأن الخارجي وتحديداً طوفان الأقصى والعددوان على غزة، خاصة وأن الولايات المتحدة احتلت المرتبة الثانية عالمياً في عدد المظاهرات المناهضة لـ"إسرائيل"[27] خلال معركة طوفان الأقصى الأمر الذي سيكون له حكماً تأثر نسبي على الناخب واختياراته. لإن تداعيات الطوفان تجاوزت حدودها الجغرافية لتطال المصالح الاستراتيجية الأمريكية، سواء كانت تلك المصالح  متمثلة باستمرار التوازن الإقليمي، أو استقرار المعابر البحرية للتجارة والنفط أو منع انتشار السلاح النووي.

 

وهذا ما يجعل من طوفان الأقصى وتداعياته اختباراً عملياً لمدى تأثير الشأن الخارجي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية نظراً لحدة هذه الأزمة والهواجس الدولية المصاحبة لها، ناهيك عن أن شرائح الشباب وأصحاب التوجهات التقدمية أصبحت أكثر ميلاً لانتقاد السياسات المساندة لـ"إسرائيل"[28]. كما أنّ هناك شريحة أخرى في المجتمع الأمريكي تأثرت بطوفان الأقصى وهي شريحة "المسلمين والعرب" الأمريكيين، ورغم أنّ هذه الشريحة لا تتجاوز نسبة كبيرة دخل المجتمع الأميركي وهو ما يجعل وزنهم الانتخابي دون مستوى التأثير الكبير، وإذا عدنا إلى الانتخابات السابقة عام 2020 فصوّتت هذه الشريحة لصالح بايدن بنسبة عالية جداً وصلت إلى 83%، ولكن أصواتها الانتخابية لم تتجاوز 1% من إجمالي عدد الأصوات ولكنها أثرت لو قليلاً بنتائج الانتخابات. ومع تداعيات طوفان الأقصى فإنها ستزيد من تأثير دور الصوت الإسلامي على الانتخابات ولو كان تأثير محدود نسبياً.

ولابدّ هنا من الإشارة إلى أحد الأبعاد ذات الدلالة على تأثير الطوفان في الناخب الأميركي والمتمثّل بمتغير العمر للناخب، وتبدو العلاقة واضحة بين عمر الناخب ودرجة تأييده لـ"إسرائيل"، فكلما تقدم الفرد في العمر كان تأييده لـ"إسرائيل" أعلى والعكس صحيح، وهو ما يفسر عدم اتساق الأمريكيين من عمر 30 عاماً فما دون مع مواقف بايدن من الحرب في غزة، كما أن السود من الأمريكيين أصبحوا أكثر نقداً لـ"إسرائيل"[29]، وهو تيار تنامى بهدوء منذ حرب 1967، ويعمل على المقارنة بين الاضطهاد والعنف في المجتمع الأمريكي تجاه السود وبين العنف الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين.

 

وعليه، فقد أثرت معركة طوفان الأقصى في مواقف شرائح معينة (المسلمون، والسود، وجماعات يهودية، والشباب، ويسار الحزب الديموقراطي)، لكن الفارق بين المرشحين ضئيل للغاية، وهو ما سيجعل التحول في أي شريحة صغيرة أمراً قد يقلب النتائج، وهو ما يمكن أن يكون عليه الحال بخصوص شريحة "غير المقررين" توجهاتهم الانتخابية حتى الآن، والذين يشكلون نحو 17% من الناخبين[30]، وكلما كان الفارق أقل كلما كانت الجماعات الصغيرة أو جماعات الضغط أكثر قدرة في التأثير على النتائج.

خاتمة

يبدو أنّ مسار وتداعيات معركة طوفان الأقصى ما تزال غير واضحة، لكن المؤكد أنها ذات تأثير على النتائج الانتخابية حتى لو كان تأثيراً هامشياً، لكنها ستكون أكثر دلالة في نتائجها إذا تأكدت نظرية التراجع الأمريكي العنيف الذي تتزايد مؤشراته في الأدبيات السياسية الأمريكية.

مما يعزز من انكفاء الولايات المتحدة نحو أوضاعها الداخلية، خاصة وأنّ هناك ملامح للتحول في المجتمع الأمريكي، وإرهاصات حرب أهلية قد لا تبدأ على أساس الأسس نفسها التي حصلت في الحرب الأهلية الأولى (1861-1865)، بل قد تبدأ باضطرابات اجتماعية ثم تتسع نظراً للمأزق الذي وصل إليه النظام الليبرالي القائم المعاصر وضرورة الاستعجال في استبداله، وهي دعوة تتكئ على توجهات اليمين المتطرف وتتمثل هذه الأوضاع في عدة مؤشرات[31] منها تنامي مظاهر التطرف السياسي والاستقطاب وتزايد الحساسيات بين الثقافات الفرعية في المجتمع الأمريكي، واتساع قاعدة انتشار السلاح الفردي، إذ يبلغ التسلح الفردي في الولايات المتحدة ما يعادل 40% من مجموع السلاح الفردي في العالم كله، ففي الولايات المتحدة 393 مليون قطعة سلاح فردي، وانعكاس ذلك على الفوضى المجتمعية وانتشار أطياف متعددة من المليشيات المسلحة، ناهيك عن الفوضى السياسية الأميركية التي طغى عليها ثقافة القوة واعتبارها ركيزة مهمة في السياسة الأمريكية بصرف النظر عن المسألة الحقوقية الإنسانية ومبادئ الديمقراطية التي تتغنى بها وتطبيقها وفق مزاج إداراتها ما أدى إلى تآكل الثقة في المجتمع الليبرالي وانتشار نظرية المؤامرة بين العديد من شرائح المجتمع الأمريكي.

واليوم، وفي خضم تصاعد الطوفان ودخول جبهات جديدة وساحات جديدة من سوريا إلى العراق فاليمن وإيران وما رأيناه من رسائل عسكرية فإنّه ليس من المستبعد أن يتطور إلى حرب إقليمية وستكون المباغتة والمفاجأة عناصر أساسية في هذه الحرب، حيث لن تتوقع "إسرائيل" والقواعد الأميركية أي جبهة ستكون التالية وتضغط على الزناد، وبالتالي بنك أهداف المقاومة محدد والمهام محددة لدى جميع الجبهات في غرفة مشتركة بالتنسيق والتكامل مع قوى المقاومة، وربما نشهد حرباً عالمية وهي الوصف الأدق لما ستتطور إليه الأمور، فالحضارات الخمس الأخرى اليوم تصطف بجانب الحضارة "الإسلامية" كما صنفها "دوغين" في هذا الطوفان في مواجهة الغربية التي أعلنت هذه الحرب العالمية مع إعلانها الدعم المالي والعسكري اللامحدود لـ"إسرائيل"، وعلى لسان مدير البيت الأبيض بأنه صهيوني ووزير خارجيته بأنه يهودي دليل على كونها حرب حضارات وحرباً دينية ربما..

وبالتالي، الحرب ستطول والاصطفافات تحددت والشعوب قالت كلمتها، ولن يوقف هذه الحرب سوى فلسطين التي أثبتت أنها قلب العالم، وإليها تتجه كل بوصلة ومع إعلان دولة فلسطين وإعادة الحق لأهله في فلسطين فحينها يمكننا القول بأنّ الحرب انتهت، وإلى ذاك الحين سيبقى الصراع وسيكون الطوفان الذي أفشل قدرة "إسرائيل" العسكرية والاستخبارية نموذجاً يحتذى في كل عملية، وما تقول عنه "إسرائيل" بالتوغل البري سيكون إعلاناً لنعيها ونعي راعيتها الأميركية في المنطقة، وستبدأ معه العودة العكسية ومعها العودة الأفقية للجنود الأميركية في حرب المشرق العظمى التي بدأت من أرض الميعاد في بلاد الشام العظيمة، ولطالما كان الصراع العربي هو البداية لكل نظام عالمي جديد ومنه ستكون النهاية.. وإنّ وعد الله كان مفعولاً