بينما أدرّس "النخلة المائلة": خاطرة في ذكرى يوم الأرض الخالد

pattern
details
22-04-06

بينما أدرّس "النخلة المائلة": خاطرة في ذكرى يوم الأرض الخالد

شيرين تناصرة برغوت

Image"ناعمًا يمرّر الضوء يديه

فوق أصابعي.

تركته الحربُ

يمضي إلى وطني.

سريعًا يقضي كلّ وقته فوق ترابي ...

وجثثُ السلامِ

تحلّق في فضاء الأمنياتِ.

لم يركضْ مرّة إلى أحد

لكنّنا نسعى دونه وراء ظلالنا السوداء.

غفت أحلامُنا

ثم نمنا على الطَلَل

الوسيع كحرقة ذاك البعيد.

بيننا مسافات

ولكن كلّنا واحدٌ

فينا ما فينا

من وجع."

 

على أثر الحرب الّتي لا تموت (ش.ب)

 

ليس عندي لأصف ذاتي سوى أَنْ أَقول إنّني مُعلّمة قد تجنّدت بالكتب والمراجع اللغويّة حَتّى تكون حصّة اللغة العربيّة نسمة منفوحة بما يحبّه طلّابها. أسرقُ من الفجرِ كلّ قواه لأكون كما يليق بالتدريسِ وأهلِهِ...حتّى وَصل الموعد، هذا الموعِدُ الَّذي يجمعني بتجربة تدريس أدب لأديب كمحمّد علي طه. الموعدُ الّذي أَلقى خلاله يوسف العليّ محلّقًا فوق جناحَي شوقِه لمبروكة حبيبته. هذا الموعد مع الأدب المقاوم الّذي يجمع الذكرى، الحدث وقوّة الكلمة. أَستجمع معرفتي، طاقاتي المتبقيّة، كلّ محاضرات الأَدب الّتي احتفظْت بها منذ أنْ أَنهيت تعليمي في قسم اللغة العربيّة وآدابها في جامعة حيفا. ثم أفرش هذه الأوراق فوق سطح المكتب لأبحرَ في خضمّ القِصّة... علّها تفي غرضَ الدراسة...  

 

تأخذُني أوراقي من النخلةِ المائلة إلى ذكريات حيفا، تَسْحبُني معها إلى أيّام الشباب العتيقة، أيّام اتّخَذْتُ في غضونِها العربيّة لغةً وأدبًا صومعتي. أَذكرُ أنّي في الجامعةِ عرفتُ طورًا آخر من الحياةِ، طورًا لم أعهدْه. بدأتُ أكتشفُ أنّ البشرَ ليسوا متساوين كما قالوا لنا في المدرسةِ الأولى، ثمُّ ذقتُ الوجعَ على جلدي.. اكتشافاتي في ذلك الوقتِ كانت وسيعة كحضنِ أمّي. لم تعد عهودُ الزمان الغابر قائمة، الاختلاف أصبحَ يطلّ كلّ صباح فيكونُ مادّة التفكير الأولى الّتي تؤرقني. دقائق من الذكريات ثمَّ أعودُ إلى النخلة وأبحثُ عن أثرِها في القرآن الكريم، في الموروث الحضاريّ لشعوبٍ مختلفة. أنتقي الجملَ واحدة واحدة لتكونَ المادّة طيّعة الفهم، سلسة التعابير. يحصرُني القلبُ ودقّاتُه بين دفتَيّ "الفئة العمريّة" طلّابي لم يعيشوا النكبة، لم يغامروا في خيام اللجوء، لم يضيّعوا ذكريات الطفولة في غور أماكن لم تبقَ لهم. القدرُ كان معهم ضحوكًا، بدأت أتساءل لربّما عاشَ أجدادهم بعضَ الأحداثِ المرّة؟! كيف الوصول إلى المعنى وليست التجربة حاضرة؟!

 

حينها رسمتُ دائرة الأسئلة ذاتها لأسألها لنفسي: ماذا أعرف عن قصص النكبةِ المشؤومة؟! ماذا أحملُ في جُعبتي لأعطي للطلّاب؟! ماذا يعني الشوق لأرضٍ كانت لي ثمّ أصبحتُ غريبة عنها؟ مالتْ نفسي حالًا، تمامًا كمبروكة؛ جفّ حلقي ورجفَت يداي. قرّرتُ أَنْ أَبحثَ بكلُّ قواي وأقرأ أكثر... فأنا مثلهم لا أملكُ أدنى فكرة عن معنى التهجير، اللجوء، الوطن السليب. شدّتني قريحة المعلّمة الصامدة إلى كلّ شواطئ النجاة، إذ إنّ كلّ الأبواب مفتوحة للمعلّم في أيّامنا. غامرْتُ في شرف مروم علّني أطالُ نجمة! الذكريات الّتي لديّ عن الغربة قابعة في جامعة حيفا المكان الّذي عرفتُ به ذاتي عن قربٍ، حيثُ يسبر المرء غور معاني لمجرّدات لم يكنْ قد فكّر فيها من قبل...

 

حضرتني هذه الذكريات، بجلّها، وأنا أقفُ أمام "مبروكة" وأَنا أَسعى بقصور طاقاتي أَن أَشرح معنى التهجير؛ نعم، إنّه التهجير لا الهجرة! شتّان ما بين الكلمتَين. شكرًا لعربيّتنا لأَنّها تفرّق في أوزانها الصرفيّة بين ما يقوم به الإنسان بقواه الذاتيّة وما يُجبَر على فعلِهِ. لقد كانت التغريبة، ناشفة عشفتيْ يوسف العلي حال وصوله إلى مبروكة الّتي بقيت صامدة وفيّة لعهدها. 

 

مبروكة عمّتنا، الشامخة حضورًا وهيبةً، في انحنائها صورة عن الحزن القابع في زوايا القدس الشريدة، في عين الناصرة الغائرة، في شواطئ عكّا المغامرة، في زعترِ صفوريّة الصامتة، في ميناء يافا الوادعة، في عيونِ حيفا اللامعة..."تقودُه خُطاه إلى مبروكة" وتقودني خطاي إلى غربتي عنه... أَقول لطلّابي متأكّدة: "إنّ القصّة الفلسطينيّة تؤرخ الماضي سردًا..". أُفاجَأ برهة بكون هذا الماضي ثقيلًا على أكتافِهم، ثمّ أُردف قائلة: "إنّها قصّة أجدادنا، قصّة الوطن السليب..." بعدها تكونُ صدمتي القاتلة، بأنَّه عبءٌ ليسوا قادرينَ عليه. حينها فقط تساورني الشكوكُ، يقتلني الوجعُ كما قتل يوسف العليّ، يُحاسبني ضميري؛ فهل الحقّ على المعلّم وأُسلوبه، هل الحقّ على التربية؟ أم على واقعٍ نعيشُه اليومَ في هذه الدولة؟ أم أنّ القضيّة تجربة معيشة لا أكثر؟! هي مادّة للتفكير في الحقيقة! 

 

هل انحنت مبروكة حزنًا على نسياننا، على جيلٍ رابعٍ أو خامس، شاءَ قدرُه أن يكونَ وليد القرن الواحدِ والعشرين فيعرفَ عن الحياةِ سرعتها لتكونَ سيفًا يحبّه ويقتلُه في آنٍ واحدٍ. هل شاء يوسف العليّ أن يطرحَ صورة لربيعِ الوطن لأنّه يعرف أنّنا سنعيشُ في خريفٍ مستديم؟! هل غدت مشاعر الحبّ للأرضِ دفينة معَ بركاتها؟! لم يبقَ في جُعبتي ما يُقال، سُجنتُ هناك بجانبِ مبروكة... وشكرْتُ الأدبَ الجميلَ لأنّه يبقينا قريبينَ من الحريّة إذا ما قرأناه كما يجبْ..