سؤال لا بد سيتبادر إلى عقول القرّاء: هل يمكن كتابة رواية بينما الحرب ما زالت تحرق، وتقتل، وتستبيح، وتدمّر، وتخرّب ..؟!
رشاد أبوشاور
هذه الرواية تجيب: نعم.
وأنا أعني رواية (خبر عاجل) للناقد، والقاص، والروائي، والأستاذ الجامعي الكبير الدكتور نضال الصالح.
وصاحب الرواية حلبي، وهذه النسبة هامة، فحلب مدينة عريقة، وتاريخها ممتد، وهي مدينة حرست الثغور العربية في مواجهة الإمبراطورية الرومانية الشرقية (بيزنطة)، وشرعت سيفها محاربة ذائدة عن العروبة إبّان الدولة الحمدانية بقيادة أميرها سيف الدولة الحمداني، الشاعر الفارس، والذي اقترن اسمه وصفاته وبطولاته بقصائد شاعر العرب أبي الطيّب (المتنبي).
ونضال الصالح ، لمن عرفه، إن بدأ بسرد تاريخ وعراقة وجمال وعظمة حلب..فمن الصعب ان يتوقف، فهو يتدفق حبا، وولها..بمدينة روحه، ومعه كل الحق،فحلب جديرة بكل هذا الحب الذي اختزنه قلب هذا الحلبي المتميز، والذي عرفته قبل عقود من الزمن.
طالت هذه الحرب، واصابت البشر والحجر ، وفجعت السوريين، وكل من يحب سورية، ويعرف دورها وقدرها، ويوجعه أن من بذل المليارات لتأجيجها قد فعل هذا بأموال النفط والغاز العربي..وبتواطؤ عرب تنكروا للعروبة، وانعدمت في قلوبهم الرحمة، وماتت القيم وفي مقدمتها الأخلاق.
سنوات قاربت العقد وسور ية تكابد، وأعداؤها يتكالبون عليها: أمريكا، تركيا، دول الثراء المصادف نفطا وغازا ..ومرتزقة مستاجرون مستجلبون بلحى يصيحون باسم الله وهم يدمرون، وينشرون حقدا طائفيا مجنونا فاجرا وهم ينهشون لحم سورية، ويزدادون ضراوة ونشوة وهم يفاقمون أوجاع سورية بحرق قمحها، ونهب نفطها وغازها، وذبح علمائها حُرّاس تاريخها وأوابدها الحضارية، وتدمير مساجدها وكنائسها، وقتل طلاب جامعاتها، وتمزيق أجساد أطفالها وهم يغالبون خوفهم ويتوجهون لمدارسهم ودور حضاناتهم…
كيف يكتب الروائي رواية عن كل هذا الخراب والموت ..ووسط الحريق، وفي أوج الذهول، وهو ينقّل نظره وقلبه المفجوع بين مكتبته المحترقة تحت بيته المدمّر..ووطنه الذي تلتهمه الحرائق من كل حدب وصوب؟!
ولكن نضال الصالح يكتب، وهناك أيضا من كتبوا، منحازين لوطنهم،ولإنسان وطنهم، شعرا ونثرا، حكايات وقصائد و..روايات.
ولأنه ناقد كبير متابع منذ عقود، لمسار الرواية العربية، فلا بد أنه طرح على نفسه أسئلة كثيرة، فهو مقدم على كتابة روايته – هو من قبل قاص وروائي..وناقد – التي تدور في زمن الحرب، والحرب كشفت النفوس والعقول والأخلاق، والحرب تحدد من الشجاع المنحاز لوطنه، سورية، ومن الجبان الفاسد اللص الذي لا يفرّق بين الحلال والحرام، وفي كل حروب الدنيا حدث هذا، وما هو بالغريب، لكن الغريب أن يخون إنسان بلاده – كما صاح الشاعر الكبير العراقي الراحل بدر شاكر السيّاب: أيخون إنسان بلاده؟!_ والحق انه وجد في الحرب على سورية من خان، ومن باع، ومن أثرى ويثري من دم السوريين وجوعهم…
ولأن الناقد صاحب موقف، ولأنه لا يحابي، ولا يمدح ما لا يستحق، ولا يقرّظ ما هو تافه وسطحي، فهو أكثر حدّة وهو يرى ويعيش محنة وطنه الذي يُكتب بالدم، ويجب ان يروى بصدق، حتى لا يسود الكذب، وتتسيد الأخلاق الفاسدة المنحطة.
ولأن الروائي يعيش (رواية) سورية، ويا لها من رواية عظيمة سيتقرر في ختام فصولها مصير العرب، وليس سورية وحدها،فهو يكتب روايته بصدق، وبمبضع جرّاح يرى مهمته المشرّفة في تحديد أسباب المرض، ويوجه إلى اقتلاعه من جذوره حتى لا يُدمّر الجسد، والجسد سورية وروحها وديمومة بقائها…
تبدأ الرواية بتوضيح أوّل: أي تشابه بين الشخصيات والواقع ليس محض صدفة على الرغم من أن مجمل محكي الرواية تخييل بامتياز.
هذا يعني أن شخصيات في الرواية لم تُختر في الرواية مصادفة، فهي (واقعية)، وهي معروفة للروائي، ولبعض قرائه في حلب، وربما في سورية، وأنه لا يخشى من أن يتعرفوا على أنفسهم في روايته، وهو يتعمد أن يجعل منهم (نماذج) مُنفّرة كما هم على حقيقتهم..وتتجلى تلك الشخصيات (المهجوة) وهي تظهر بتمام قبحها أمام شخصيات إنسانية صادقة محبة مخلصة لوطنها- والرواية عن سورية الوطن والناس الشرفاء المضحين متحملي أوزار الحرب- ولعله يطمح بأن يجعلهم عناوين للسقوط والفساد، ما قبل الحرب، وأثناء جائحة الحرب المروّعة، ووالتحذير منهم ومما يمثلون في مرحلة البناء التي لا يُغتفر أن يلوثها الفاسدون من جديد…
أعاد الدكتو ر هشام قراءة الاعتذارين عن نشر الرواية غير مرّة ، وكنت أتابع ملامح وجهه وهي تصخب بغير وجع…(ص7)
من هنا تبدأ الرواية، والتي تخبرنا بأن (رواية) رُفضت، وأن اثنين قرآها أوصيا برفض نشرها…
وهنا يحضر المتنبي، وهو حاضر في الرواية من بدايتها إلى خاتمتها المفتوحة، شخصية ( روحانية) مؤثرة شعرا ورؤية حياة و..شحذ همم.
يردد الدكتور هشام، وهو صديق الدكتور أحمد صاحب الرواية:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له ما من صداقته بُدُّ
ويضيف: أتعلم؟ يمكنك تغيير لفظ عدو إلى جاهل أو حاقد أو مخبر أو كويتب،ولفظ صداقته إلى رقابته أو إخباره أو تقريره أو دسه أو كيده..(ص7).
هذه الصفات ليست وقفا على من يستحقون الهجاء في بلد عربي بعينه، فهي عامة وطامة، وهي ترتبط بالفساد والتشجيع على النفاق في كل بلاد العرب.
لكن هذا الهجاء لا يمنح الرواية مزايا إذا لم تقدم نفسها رواية بحّق، يعني تجتذب، وتمتع، وتقنع، ويبقى منها شئ ما في النفس..وتملك عمق الرؤية ، وشجاعة الموقف.
يسرد الروائي روايته من خلال أسرة، وهذه الأسرة تتكون من الأب، والأم، والأبناء: الأم فطينة، الأب،الأبناء : معتز ، أحمد، أليسار، ومن ملاحظة خلفيات الأسماء نعرف أن الأب قومي سوري، فاسم عز منحه لابنه من مقولة الزعيم أنطون سعادة : الحياة وقفة عز،واسم أليسار ، هو غالبا اسم يحبه القوميون السوريون يعود إلى الأميرة أليسار، او عليسة، التي أدارت ظهرها لصور بسبب الصراع مع شقيقها وأسست مملكة قرطاج الفينيقية العريقة.
هذه هي الأسرة الحلبية التي اضطرت لمغادرة بيتها، الذي أوجع فراقه قلب الأم، فهي من دفعت من راتبها كمعلمة أقساطه على امتداد خمسة عشر عاما.
معتز معارض مزمن ، وناقد حاد للأحوال، وهو لا يتمكن من التمييز بين آ رائه ومن هو منحاز لهم و..الجماعات الإرهابية..وهو يعلن مواقفه الحادة على مواقع التواصل، ويسجن..ويتدخل عمه ( أبويامن) مرارا للإفراج عنه، ولكنه (يختفي) في النهاية، ولا تنفع وساطات العم التاجر!
أليسار الأخت الوحيدة صيدلانية تحب شابا يخذلها، ويغادر إلى السويد دون ان يخبرها، ثم تكتشف مدى سقوطه مع صديقتها، تلك التي أحسنت لها، وساعدتها، فإذا به تبني علاقة مع سمير خطيبها، و..تتعامل مع الإرهابيين مخبرة لهم ..وتطلب منهم تدمير صيدليتها!
أمّا الدكتور أحمد فيلتحق بالجيش، ويقوم بدوره مع صديقه الدكتور هشام، في اكتشاف حقول الألغام وتفكيكها، وحماية الجنود والناس من فتكها، وهو يرتبط بحمان التي التقاها صدفة- ودائما توجد صدف تكون بدايات لقصص حب في حياة الناس، والمهم أن تكون مقنعة، ومبررة- وتكون هي صاحبة (عاجل) الذي حملته الرواية في عنوانها، فهي كانت ترسل بآخر الأخبار من حلب عبر وسائل التواصل إلى الملازم أول الدكتور احمد حبيب القلب الذي يزداد افتتانا بحبها، وإخلاصها، ووقوفها إلى جوار أمه في مرضها.
الأب غائب غالبا عن البيت،وهو صحفي عتيق، والأم المصابة بمرض السكري تزداد معاناتها بما يعانيه إبناها وابنتها، ويظل الأقرب إلى قلبها المُحب أحمد الذي تدلله(حمودي).
شقيق الأب ( أبو يامن) وهو تاجر موسر جنى ثروته بشطارته بعد بداية متواضعة، وصار صاحب مصنع كبير، يزاحم المنتجات الأجنبية، نصحه بمغادرة البيت لأن المسلحين سيهاجمون الحي خلال أيام قليلة.
تتداخل خسارة المدينة لحيها العريق بخسارة الأسرة لبيتها وأمانها واستقرارها، وتبدأ رحلة التشرد..والتمزّق!
عز شديد النقد للسلطة وأجهزتها، والأم والأب قلقان عليه، وينتهي أمره باختفائه بعد نشره لمواقف حادة ضد السلطة على حسابه على الفيس، وعجز عمه التاجر عن انقاذه كما في كل مرّة سبقت.
وأحمد الدكتور الذي حُرم ظلما من شغل موقع معيد لصالح ابن أحد المسؤولين يقرر أن يلتحق بالخدمة العسكرية، ولأنه مهندس فقد حددت مهمته بالعمل على نزع الألغام مع صديقه الدكتور هشام.
تخرج أليسار من صدمتها بعد معاناة عندما تتعرّف على مشاعر الدكتور هشام صديق شقيقها أحمد، وبعد تردد تستجيب لطلبه خطوبتها، ولعل ما شجعها أن هشاما يتطابق في شخصيته مع شخصية شقيقها أحمد.
الحرب التي تدمّر البيوت تُدمّر أيضا العلاقات الاجتماعية، وهو ما حدث لأسرة ابي يامن، فابنه معقد رجائه يتخلّى عن خطيبته ابنة التاجر صديق الأب، ويبقى في باريس غير آبه بتطوير مصنع الأب والتضحية بحياته الشخصية خدمة لعلاقات والده التجارية.
هذه ال رواية سفر حُب بحلب المدينة العريقة، وهي تقدّم المتنبي شخصية روحية تسند روح أحمد، وتوحي له، وتقوّيه، وتلهمه، وعندما يتحدث عن (جده) المتنبي، بدون ذكر اسمه، ولكن بأثيرية حضوره، وبواقعية إلهامه له، تنصحه الأم بخوف: برضاي عليك يا حمودي ما تحكي لحدا.(ص115).
يقول الدكتور هشام، صديق أحمد الوفي، معلقا على موقف عز المتعصب لموقفه النقدي الذي لا يميز: ولكن كان عليه وعلى أمثاله أن يكون لهم دورمختلف لأنهم مثقفون. (ص138)
وهما يريان تشي الفساد، هشام وأحمد، يبديان قلقهما على المستقبل، وتتردد عبارتهما: أخشى أن لا نستفيد مما يحدث!
وبرأيهما، أن ما تدفعه سورية من دمها وعمرانها وتراثها وث رواتها وعذابات شعبها وبطولات جيشها وشرفائها: يجب أن يؤسس لسورية القادمة التي لا دور فيها للفساد والفاسدين والمنافقين.
قدّم نضال الصالح في روايته شخصيات مضحية بطلة مثل العميد صلاح قائد الوحدة العسكرية الذي كان يتقدم رجاله في الميدان، ويحدب عليهم وكأنهم أبناؤه.
وبالتأكيد سيتوقف القارئ أمام شخصيات: الأم المكافحة، وأحمد، وهشامن وجمان العذبة الحضور، واليسار..والمتنبي العظيم بحكته وعلو حضوره وكأنه يشمخ مع قلعة حلب، أليسار التي تنهض رغم صدمتها..بالحب الذي يغدقه على قلبها الدكتور هشام.
يستفيد الدكتور نضال الصالح من أسلوب كتابة السيناريو، وبهذا التقطيع المونتاجي، يتمكن من تجاوز السرد البطئ الذي ربما يكون مملا للقارئ، فرواية تكتب تحت القصف اليومي لحلب، ويفكر كتابها بفصولها وشخوصها وهو يسافر سفرات خطرة من حلب إلى الشام، وعبر طرق يتربص الإرهابيون بها، ويغتالون مسافرين أبرياء في الحافلات المدنية..لا شك يعجز التعبير عن معاناتها سرد عادي مرتاح.
ويبقى السؤال: هل يمكن كتابة رواية بينما الحرب متواصلة؟ يمكن، وهذا ما تجيب عليه رواية ( خبر عاجل)، خاصة واحداث الرواية تتواصل حتى ما قبل صدورها بوقت قصير.
*صدرت الرواية عام 2020 في عمّان-الأردن عن منشورات الآن ناشرون.